مشكلة الشعبوي أنه غير مؤتمن على شيء مما يقول؛ فهو حين تتحرك الموجة ويتهيأ للركوب لا يلوي على شيء.
ذهب النائب "محاولا نصر الرسول صلى الله عليه وسلم" فأتاح للإساءة انتشارا لم يتح لها قبله، أعلنها على رؤوس الملأ من تحت قبة البرلمان، مغلفا إياها بالإساءة إلى مسلمين معصومي العرض.
لم أعرف محتوى الإساءة وتجنبت الاطلاع على الورقة إلا أن النائب فرض علي الاطلاع على ما يسوء في حق الجناب النبوي، والغريب أنه بحجة الانتصار.
ألا اهتدى بهدي القرآن، وهدي سلف الأمة وخلفها!؟ فما من أحد تلفظ بالإساءة في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وجاء القرآن مزكيا نهج الصحابة في تجنب الإشارة إلى محتوى ما قال المنافقون في حق الصديقة.
كنت صغيرا عندما قرأت حديث الإفك أول مرة ولم أعرف ما قال المنافقون في حق الصديقة إلا بعد أن كبرت، وفهمت المعاريض.
ما قاله رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني لا يمكن أن يوجد ما هو أبلغ منه في سلوك دولة حكيمة تأخذ على عاتقها مسؤولية تحقيق العدالة؛ تبرئة ساحة الدولة الموريتانية في موضوع الإساءة إلى الجناب النبوي لا يمكن أن يزاد عليه.
في التجربة السابقة اعتلت الدولة منبر الشعبوية وحصدنا "أمرًا جماهيريا" بتطبيق الشريعة في المسيء وشهورا من الحشد الجماهيري، والخطاب العاطفي، ثم آلت الأمور إلى ما آلت إليه.
وفي القضية الحالية تحركت الدولة كدولة، مسؤوليتها تحقيق العدالة بما يسبق ذلك من تحقيق، وعدم استعجال في إصدار الأحكام، وعدم ارتهان لخطاب التحريض العابر للاتجاهات، وإتاحة الفرصة للمتهم حتى تثبت إدانته.
تبرئة ساحة الدولة من الإساءة معناه ترك العدالة تأخذ مجراها دون أي نوع من التستر على الجريمة، أو خوف من عاقبة الأحكام التي قد تصدر. وعدم التضييق على أي نوع من الضغط الشعبي السلمي باتجاه الإسراع في القضية وتحقيق العدالة وفق ضمير القضاة والمحققين.
كانت المعالجة الحصيفة التي اعتمدتها الدولة في طريقها لأن تنتج حلا جذريا رادعا يقوم كل طرف بمسؤوليته في مناصرة الجناب النبوي. لكن الشعبويين مجبولون على المحاولات اليائسة للانفراد بالمجد المتوهم. يبحثون عن طريق للانفراد برفع الراية حتى ولو جر ذلك إلى نقص مناصري القضية التي يدعون رفع لواء الدفاع عنها!. ألا بئس رائد القوم الشعبوي الطنان!.
منهجية تسجيل المواقف لا تغني نقيرا في تحقيق الأهداف، وهي أبعد من أن تحقق هدف جعل مناصري فخامة الرئيس طرفا ضد مناصري الجناب النبوي.
للدولة مسؤوليتان تبدوان متناقضتين يحتاج التوفيق بينهما قدرا ليس بالقليل من الحصافة والتدقيق؛ فهي من جهة خصم لكون الموضوع يتعلق بالإساءة للجناب النبوي، ومن جهة هي قاض مسؤوليتها تحقيق العدالة ولو اقتضى ذلك تمكين المتهم من تقديم بعض الشبهات.
ما يحقق العدالة هو الفصل الكامل بين مسؤوليتي الدولة تجاه الملف؛ فتتحرك الدولة ممثلة في الادعاء باعتبارها طرفا، ويجلس القاضي ممثلا للدولة في الزاوية الأخرى محايدا باردا ينظر في الأدلة، ويدقق في الوقائع ويفتح الباب تلو الباب أمام المتهم الدفع بالشبهات. ولا طريق للقاضي غير هذا وإلا خان أمانة النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لكن الشعبوي يريدها دولة تعتجر عمامة مسيلمة الكذاب، وتخطب على منابر القضية، وسيجد فرصة للمزايدة عليها في سوق إلهاب العواطف.
أو يريدها دولة تضاد مجرد الاتهام وتتستر على المتهم، وهذا يحقق له غاية جمع الإعجابات بإظهاره بطلا يدافع عن أقدس المقدسات، في وجه دولة تتستر على المتهم.
الدولة في هذا العهد لا تستفز بطريقة البلاغة الفارغة وصناعة الكلام، ولا يزايد عليها في حماية الثوابت، ولا في الدفاع عن المقدسات. ستأخذ الحق، وتنتصر الجناب النبوي وفق سنن العدل التي سنها المصطفى عليه الصلاة والسلام، ستدافع عن الجناب النبوي بالسنة النبوية، وتترك للشعبويين قلوب الغوغاء.