لكل عربي ومسلم، بل وكل حرّ من أحرار العالم قصة مع فلسطين، فمن ثلاثة أرباع القرن بتمامها وهي في قلب الحدث، ومأساتها تدمي من فيه شيء من الإنسانية. وقد تفتح وعيي على هذه القضية من باب الشعر وأنا تلميذة في المدرسة، إذ كان مقررا علينا في مدارس البحرين قصيدة لشاعرها الكبير إبراهيم العريّض من ديوانه «أرض الشهداء» وهي ملحمة شعرية عن مأساة فلسطين نشرها سنة 1951 أي بعد ثلاث سنوات من النكبة، ما زلت إلى الآن أحفظ كما يحفظ جيلي أبياتا من هذه القصيدة بمطلعها المؤثر:
يا فلسطينُ وما كنت سوى … بيعـةَ الأرضِ على كفِّ السماءِ
اشْهَدِي أنّ بياني قد روى … فيكِ ما يُرضي قلوبَ الشهداءِ
وشاءت لي الأقدار بعد ذلك أن أدرس الأدب العربي في المرحلة الثانوية عند أستاذة فلسطينية عروبية التفكير والانتماء، رأت شغفي بالشّعر وحفظه فرعت موهبتي في التعبير والإلقاء، وفتّحت وعيي السياسي على مظلومية شعب لا ذنب له سوى التمسك بأرضه، بعد أن اقتلع منها واستولى غيره عليها على مرأى من العالم ومسمع. وكان هذا الوعي البسيط مؤهلا ليكبر ويقوى عند دخولي الجامعة، ففي سنتي الأولى أقام قسم اللغة العربية في جامعة البحرين مسابقة في الإلقاء الشعري في ديسمبر/كانون الأول 1988 أي بعد سنة بتمامها من اندلاع الانتفاضة الأولى التي عرفت في الأدبيات السياسية بانتفاضة أطفال الحجارة الأولى، وقد شاركتُ بقصيدة الباحثة والشاعرة والكاتبة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي التي مطلعها:
تباركت الأرض أرض الجدود … وأرض السنابل والأقحوان
لكنّ الجائزة الأولى كانت من نصيب طالبة أخرى عن قصيدة نزار قباني الشهيرة «بهروا الدني وما في يدهم إلا الحجارة». وفي العام التالي فازت كذلك قصيدة أخرى لنزار قباني عن أطفال الحجارة «دكتوراه شرف في كيمياء الحجر» ولم تكن الفائزة في الإلقاء سوى أنا.
والحقيقة أن الجامعة البحرينية كانت في تلك السنوات تضج بالأنشطة الطلابية، خاصة قسم اللغة العربية، وكم كانت تعلو أصواتنا في ممرات المبنى بقصائد درويش مثل «أحن إلى خبز أمي» و«أجمل الأمهات» و«وعود من العاصفة» أو نستمع إليها من مسجلات سياراتنا مغناة بصوت مارسيل خليفة، متزامنة مع ما نستعيره من دواوين شعراء الأرض المحتلة، أو نشتريه من المكتبات. فأصبح سميح القاسم وتوفيق زياد ودرويش يحتلون غرفا في القلب، بعد أن كاد يكون حقا حصريا لنزار قباني، ولعل نزار نفسه أسهم في ترك مكان لهم بقصائده عن القضية الفلسطينية وأطفال الحجارة، وكما كنت مولعة بغزله كنت معجبة بشعره السياسي، وإن بدرجة أقل، وقد ذكرت في مقالي عنه حين التقيته و«سألني عمّا يعجبني من شعره، وحين أجبته بأنّني أحبّ غزلياتِه، لم يسرّه جوابي كثيرا، وفهمتُ في ما بعدُ أنه يضيق بمن يصرّون على تنميطه شاعر المرأة فقط، بحسن نيّة حينا وبسوئها حينا آخر، مهملين دواوينَ كاملة من شعره السّياسي، وقصائدَ ردّدها العالم العربي في محطاته المفصليّة ففجّرتْ غضبَه أو ضمّدتْ جرحه».
لم يزدني الدخول إلى المعترك الإعلامي وعملي في تلفزيون البحرين أولا، ثم انتقالي إلى تلفزيون دبي إلا ارتباطا وثيقا بفلسطين وما يحدث فيها، بل أصبحت أكثر التصاقا بأخبارها بعد أن أصبحتْ خبزا يوميا في عملي فقد قدمت نشرات الأخبار الرئيسية والموجز من سنة 1988 إلى سنة 2000، سنتان ونيف كان الحديث في قاعة التحرير وكواليسها.
وفي المرحلة نفسها تعرفت على مجموعة ممن سبقوني إلى الجامعة وكانوا متأثرين بالفكر اليساري، ومن خلالهم وسعت دائرة قراءاتي فكانت رواية غسان كنفاني الموجعة «رجال في الشمس» نافذة لي على الروائيين الفلسطينيين، الذين صوروا مظلومية هذا الشعب الذي تعرض لظلم لم يتوقف منذ عقود. والطريف أنني عرفت غسان كنفاني من خلال غادة السمان، فأرجعني الحب إلى الأدب الفلسطيني مرتين، كما سبق أن ذكرت عن شعر نزار. وكان من اللازم على طالبة قسم اللغة العربية المهتمة بقضايا أمتها والمتابعة المتحمسة لكل جديد تخرجه المطابع، أن تقرأ لكنفاني أيضا «عائد إلى حيفا» وهو النص المؤسس للرواية الفلسطينية الحديثة، وتقرأ «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لإميل حبيبي، وتقرأ جبرا إبراهيم جبرا خاصة في روايته «البحث عن وليد مسعود» التي قال عنها عبد الرحمن منيف عندما قرأها «أخيرا وضع جبرا يده في نار الثورة». وللإنصاف كانت جامعة البحرين مختبرا مهمّا لتلقي النصوص، مع وعي سياسي ونضوج فكري أطّره أساتذة أكفاء من العالم العربي، من بينهم فلسطينيون كانوا خير سفراء لقضيتهم. سبقهم جيل فلسطيني رائد أصبح جزءا من النسيج البحريني درّس في مدرسة «الهداية الخليفية» أول مدرسة في البحرين فتخرج على يديه الرعيل الأول من بناة النهضة الفكرية والأدبية والسياسية في بلدي، أصبح بعضهم وزراء ومسؤولين كبارا.
وتأثير القضية الفلسطينية لم يقتصر على الجانب الأدبي شعرا ورواية، فقد تعرفت في سنوات دراستي الجامعية على فرقة «أجراس» وهم إخوة من عائلة «زيمان» شكلوا فرقة فنية مستقلة، وكانوا من رواد الأغنية الملتزمة، وفي ذلك الوقت لا التزام دون حضور الهم الفلسطيني والتغني بقصائد شعراء الأرض المحتلة، وقد قدمت حفلات هذه الفرقة سنتين متتاليتين. وما أن حلت سنتي الجامعية الأخيرة، حتى وقعت في غرام كتابات إدوارد سعيد وما كان يُترجم من مقالاته إلى اللغة العربية، واستهواني مشروعه الفكري، ودفاعه الحضاري الراقي عن القضية الفلسطينية، بعيدا عن جموح العاطفة. ولا يزال أثيرا عندي إلى حد الساعة أعاود الرجوع إليه حين احتاج جرعة عقلانية ذكية.
لم يزدني الدخول إلى المعترك الإعلامي وعملي في تلفزيون البحرين أولا، ثم انتقالي إلى تلفزيون دبي إلا ارتباطا وثيقا بفلسطين وما يحدث فيها، بل أصبحت أكثر التصاقا بأخبارها بعد أن أصبحتْ خبزا يوميا في عملي فقد قدمت نشرات الأخبار الرئيسية والموجز من سنة 1988 إلى سنة 2000، سنتان ونيف كان الحديث في قاعة التحرير وكواليسها، وفي التقارير وفي المقابلات لا يخلو من ذكر لفلسطين، خاصة أنني عملت مع مذيعين غطوا أحداثا مفصلية في مسارها وعايشوا رجالها الكبار. ومن يعمل في الإعلام لا بد أن يتقاطع مع القضية الفلسطينية فكيف بي وأنا الإعلامية التي تمتد تجربتي على مساحة تتجاوز العقدين من الزمن، ولم يكن يخلو برنامج لي من لقاءات مع مبدعين فلسطينيين بالمفهوم الواسع للفظة مبدع، فأجريت لقاء مع إبراهيم نصرالله، بعد أن تعرفت عليه عبر رواياته، ورأيت رام الله مع مريد البرغوثي وحاورته وزاملته وعرفته عن قرب في تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، وقد حاورت قبله زوجته رضوى عاشور في أول برنامج قابلته، وهي وإن كانت مصرية فقد كانت فلسطينية بالروح وبابنها الشاعر تميم وبروايتها «الطنطورية» التي هي رواية فلسطينية بامتياز بأحداثها وحواراتها العامية. كما استضفت في برنامجي المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي صاحب «عرس في الجليل» وفي «نلتقي مع بروين» التقيت بمروان عبادو المؤلف الموسيقي وعازف العود، وكان حديثنا عن الفن الفلسطيني، وعرّفت بمشروع «خيوط الانتماء» لمصممة الأزياء الفلسطينية سعاد أمين، فما حدث لهذا البلد هو ظلم حضاري أساسا وطمس لفنه وتراثه وأدبه. وكم سعدت باستضافة أبطال وصانعي مسلسل «التغريبة الفلسطينية» المسلسل الذي جعل مأساة الفلسطينيين تدخل كل بيت ويأسى للظلم الذي سلبهم أرضهم الصغير قبل الكبير. ولعل الفنانة الفلسطينية ريم البنا، التي توفيت بمرض السرطان هي من ضمن القلة الذين حزنتُ أنني لم أتمكن من محاورتهم فقد كان الموت أسرع مني. لكل هذا وأكثر من الحضور الوجداني لفلسطين في قلبي كنت سعيدة بالمشاركة في حملة «تراحم من أجل غزة» التي انطلقت من أبوظبي، ومثلما يحتفظ الفلسطينيون في منافيهم ومخيماتهم بمفاتيح بيوتهم التي هجّروا منها، جلبت من عمان مفتاحا صلصاليا منحوتا أضعه في مكان بارز في بيتي مع أشياء عزيزة على قلبي ليذكرني دائما بأن أجراس العودة لا بد أن تدق يوما.
شاعرة وإعلامية من البحرين
نقلا عن القدس العربي