.. ليست مجرّد مطربة أو فنانة أو إنسان حنون ولبق وجميل الظلّ وخالد الذكر، ليست هذه ذات عظمة ديمي أو معجزتها المدهشة، بل شيء أو أشياء أخرى فوق التصوّر العادي والذائقة البسيطة.
هل رأيتم في حياتكم شخصا يدخل كلّ بيت وفي كل الأوقات دون أن يسبب الإزعاج أو الإحراج لأناسه، وهل شاهدتم كيف يتحمّس الكادحون ويتعزى المفجوعون بحدائياته وهم يذكرون الله قياما وقعودا ويصلون على النبي في الحالات جميعها بعيون تتقطّر محبة وشوقا، وهل وجدتم عزفا يفرّ بك إلى الخالق ويجوب بك سماوات طباقا وأفلاكا متراصة ودنيا متصدعة وبرازخ مستترة مجهولة الأكناه ويهشّ عليك من طيبة الروح وجزع النفس ويقين العاطفة ما لا حدّ له.. عدا التقاسيم التي تتلو عليها الذكر المسكر.
ليست ديمي مختزلة في هذه الأجزاء فقط، بل في جوانب أخرى أعمق بكثير، إنها فيلسوفة ذوّاقة متصوّفة تدمع حين تخشع وتضحك بصوت باكٍ وهي تتأوّه وتئنّ ذهولا ووصولا.
لم أكن أعرف ديمي طيلة طفولتي القصيرة إلا من خلال الإذاعة الجمهورية أو بعض الرعاة العابرين، وبعدها تعرفت عليها عن بعد من خلال انبعاثها المهدئ من خيمة سيدة سمراء تصنع طعام القرية على مواقد من خشب وتطحن القمح في مهراس ضخم القرار، لقد كان قرع المدقّ وهو يهرس الحبوب يتناغم مع ردّاتها وكأنّ تلك السيدة تماشي الإيقاع بطريقة متعمدة نسبيا.
بعد ذلك بأعوام صحوت من غيبوبة صبيحة فترة مرضي بالأرق على حدائيتها "أللا تميت مع لعليات"، وكان الصباح شتائيا جدا وفي مدينة غريبة لم أدرك منها بعد سوى أنها محطّة للانحدار والانزلاق، وفي عتمة ذلك الخوف البدويّ المعقّد، وجدتني أصحو في ثمل وتقشعرّ جميع جوارحي تفاعلا وانفعالا، إنها أوّل مرة يمكنني أن أجزم أن دواخلي اتخذت مسارا مغايرا بعد تدينية شكلانية ورهبنة تافهة وعزلة عن الملذات الفنية غبية.
هنا عرفت شخصيا ديمي، وبدأت أمعن في صلتها ليلا ونهارا، سرّا وعلانيّة، وكان لي صديق مقيم بباريس الأنوار، يبدو أن مواصلاتي معه أثناء فترة البكالوريا أمسّتني بالجراح والنزف شيئا فشيئا، وأحيت ما عوفي من هشّ القلب وناعم العاطفة.
غرقت دفعة واحدة في عذب حدائها، ولم أطف على سطح الوعي بعدئذ، ولو لمرة واحدة يتيمة، بتّ أحنّ بصيغة جنونية وأشتاق بنمط انكساريّ مخلّ بالظواهر، وأبكي بسهولة، وأنتحب دون سبب، إنني صرت أحسّ بإفراط وعمق وأتحسّس الدّنيا من حولي بعينين لتوّهما ساعتها ارتدتا نظّارتين من شغف ورهاب ولذة وشكوك ووجع وانقباض وانبساط وتوتر وتحرر وإذعان وتمرّد، لقد غدوت أمثل البشرية في جلّ أحاسيسها المتلونة.
أصبت بالسهر المرّ، وبدت لي ديمي أنيسة الليالي المؤلمة ورفيقة الشوارع الممتدة إلى حيث التشرّد والشتات النفسيّ، فتوزّعتني غنائياتها وربّتت على كواهلي بحماسياتها، واستلّت أسوأ ما كان فيّ من قسوة وجلافة، لقد كانت الحقل الأخضر الوارف الأفياء في مفازات هذه الصحراء الجدباء، وأهدتني إلى حضرة الرّب بشكل هيستيريّ مبهر.
ذوقي الموسيقيّ قد تجسّد بتسارع وكانت جلساتي الإنصاتية ليلا غالبا، وللجامعة وباصاتها الغريبة الأطوار حصص تعزّ على السرد، إذ كانت تفصلني وتفصمني عن صخب تلك التفاهات المتباذئة وذلك الضوضاء المتموج بالغرائزيات اليافعة والاندهاشات الأولى التي تصاحب الناجحين من امتحانات الثانوية، وبطبيعة الحال لم أنج من فخاخ تلك الحرية الهزيلة ولم أتخلص بعد من تراث ذلك الخطّ الساخن، ولكن الأجمل فيه أنْ كانت السيدة المقدسة دواما ديمي تجلس بأذنيّ عبر مسماع قرين.. لروحها السلام.
إلى اليوم ما تزال ديمي هي ذاتها من أول لحظة، بل تزداد لذة ومتعة مع الأيام، فكلما ابتعدت عموديا وتكررت دوائر الزمن أفقيا، وكوّر الوقت مثلثاته أبدو ذلك المريض النفسيّ بلسع الموسيقى وحرقات الحداء.
لم تبق محطة موسيقية إلا وجبتها بحثا عن التغافل والغفلة معا، لأن دائي حساسية غير معتادة حملتها من طيبات الطفولة وروائع المرابع التي كنا نصطافها صيفا في رحلة الموسم كل بداية خريف.
أصبحت أعي ديمي أكثر من أي وقت منصرم، فأشعر معها بأنني تحت تأثير جرعات عالية من أقراص الروحانية الصافية وأستخلص من دماغي ما لذّ وطاب من أوجاع وحنين وما استعذبت من ضلال السنوات القدّاحة بالمراهقة الفكرية، ولو أعطيت عمرا على عمري لاخترت أن أصبح مغنيّا وعازفا بارعا، فلا أظنّ أنه يمكن أن توازي الأغاني القادمة من زلال الرزح غير الشعر المستخلص من سريرة القلب وحسب.