يثير منذ أيام موضوع مسودة الإتفاق المحتمل توقيعه حول الهجرة بين موريتانيا و الاتحاد الوروبي جدلا سياسيا، و ذعرا شعبيا، و قلقا للنظام هو مدعاة للشفقة و التأمل في آن . ففي الوقت الذي تتسابق فيه الدول الأمريكية اللاتينية و المغاربية (كالمغرب و تونس وليبيا ) للفوز بهذه الورقة الرابحة نجد النخبة الموريتانية منكفأة و عاجزة عن توضيح و تأطير و تعميق النقاش للرأي العام حول قضية مصيرية و استراتيجية للشعب و الحكومة. والغريب في الأمر أن موقف الحكومة و دفاعاتها لم تكن صلبة بما يكفي لتسكت أو تقنع الآراء الشعبوية السطحية التي غصت بهاوسائط التواصل الاجتماعي .
إن الوقوف في وجه اتفاقية كهذا لهو بكل بساطة وقوف ضد نقل الكهرباء من العاصمة نواكشوط 1400 كلمتر إلى مدينة النعمة، و هوضد محطات تحويل الكهرباء و محطة للطاقة الشمسية في كيفه، و هو أيضا يعني حرمان أحياء بأكملها من الحصول على الانارة.
لقد هيأ الوضع الدولي و الإقليمي لنا هذه الفرصة الذهبية و نحن الشعب الذي يعيش حاضرا غير مستقر و نسير نحو مستقبل غير واضح المعالم. إن كل ذي عقل حصيف يدرك أننا و من خلال هذه الاتافقية مقبلون على تقوية دفاعاتنا العسكرية في وجه الارهاب الذي يتربص بنا في اقليمنا الساحلي الملتهب، حيث سيشرف الاتحاد الأوروبي على تكوين وحدات من الجيش الوطني و تزويدنا بأجهزة متطورة لرصد كل خطر يهدد الحوزة الترابية و سيادتنا.
لقد كان الوضع الدولي و الإقليمي اللذان يرسمان سمات صراع النفوذ بين الصين و الغرب في القارة السمراء، هو الموجه الأول و الرئيس للأوروبيين و الأمريكيين على حد سواء، لمراجعة سياساتهم التنموية و الاقتصادية في القارة حيث يشكل تنامي نفوذ الصين في أفريقيا قلقا كبيرا لديهم، فقد ركزت الصين في العقدين الماضيين في استثماراتها على ، الجانب الإنمائي كالبنى التحية و التكنولوجيا الزراعية، الصحة و الغذاء عبر وجود أزيد من عشرة آلاف شركة صينية في القارة الأفريقية، وفقا لمعهد ماكينزي العالمي (ماكينزي 2017)، و في المقابل بدت غير فعالة سياسات مؤسسات البريتن وود الغربية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي)، حيث كانت تركز على الإقراض و التجارة الدولية و المدفوعات بالإضافة إلى ما اعتبره القادة الأفارقة ابتزازا لحكوماتهم و اثقال دولهم بالديون. و قد أصبح لا مهرب للغرب من مراجعة سياساته اتجاه أفريقيا، وهذا ما تمت ترجمته حاليا من خلال مجموعة الدول السبعة G7))و الولايات المتحدة الامريكية بالاضافة للاتحاد الاوروبي. تهدف الخطة إلى خلق شراكة متكافأة مع افريقيا و تدعم اعادة هيكلة المؤسسات الدولية الكبرى - كالامم المتحدة ، صندوق النقد الدولي و البنك الدولي - من اجل اشراك العالم الثالث .عبر هذا الثلاثي أعد الغرب خطتة الانمائية لمواجهة تمدد الصين في القارة, حيث سيواجهها و روسيا عبر النظام المتعدد الأطراف و مقاربات انمائية تم التأطير لها عبر خطة البوابة العالمية (The Global Gateway 2021) و تمثل هذه الخطة عصارة عصف الذهن الجيوستراتيجي الغربي , وقد تم رصد ميزانية 150 بليون يورو للاستثمار حصرا في افريقيا.و مالشراكة الموريتانية الأوروبية المتوقعة إلا من تمثلات هذه الخطة. و من هنا التقت مصالح الدولة الموريتانية و التي هي بحاجة لشريك ضخم و استراتيجي كالاتحاد الاوروبي مع هذا الاخير الباحث عن دولة كموريتانيا يمكن من خلالها تنفيذ أحد أهداف الخطة وهو الجانب المتعلق بالهجرة والمهاجرين.
لماذا موريتانيا خيارا للاتحاد الاوروبي وليس المغرب ؟
فعلى الرغم من توفر المغرب على المؤهلات ليكون ساحة المشروع الأوروبي الطموح في القارة الافريقية إلا أن ثلاثة عوامل رئيسة حالت دون ذلك . فالعامل الأول هو العلاقات المغربية الصينية القوية و التي تعززت أكثر في السنوات الاخير من خلال التبادل التجاري حيث بلغ التبادل الصيني المغربي 7.6 مليار دولار في سنة 2022, و أما العامل الثاني و الأهم هو أن الصين ستكون تتحكم في التجارة الدولية في افريقيا عبر السيطرة على ميناء طنجة و الذي تمت توسعته من طرف مجموعة الشركات الصينية, ليكون أول ميناء من حيث طاقة الاستيعاب في البحر الابيض المتوسط مع قدرة استيعابية تبلغ 6 ملايين حاوية. و يربط المملكة المغربية ب 77 دولة و 186 ميناء. و أخيرا موضوع المهاجرين والذي اصبح ورقة ضغط بيد المغرب تبتز به اسبانيا دولة عضو في الاتحاد الأوروبي, و قد اعتبرت اسبانيا أن السماح بتدفق آلاف المهاجرين 2021 على جيب سبتة من طرف المغربأنه ابتزاز وعدوان على الحدود الاسبانية و حدود الاتحاد الاوروبي و أنه خرق للقانون الدولي.
لقد اتيحت لحكومة موريتانيا و لأول مرة فرصة ذهبية إن استغلها الوفد الحكومي المفاوض أحسن استغلال و فاوض من موقف ملأ الارادة (Negotiations to impose the well) وليس من موقفالمفاوض للوصول لتسوية (Negotiations to achieve the compromise). فإنه سيحقق مكاسب ستجعل من موريتانيا يحسب لها الف حساب في المنطقة. موريتانيا تحتاج حليفا دوليا و استراتيجيا كالاتحاد الاوروبي لتخرج من مستقعها الفقري و البؤسي إلى الرفاه, تحتاج الاتحاد الاوروبي كحليف و شريك يؤطر كادرها , و يستثمر في بنيتها التحتية , و يربط حضرها بريفها و ينقل الكهرباء من انواكشوط إلى حيث مناطقنا الداخلية التي تعيش في الظلام الدامس.
لقد اطلعت مع أطر دولية موريتانية على مسودة التعاون الموريتاني الأوروبي المبرمج توقيعها بتاريخ 7 مارس 2024 وقد بدت في جلها إن لم تكن كلها في الصالح العام الموريتاني. و إن قدر لها أن ترى النور و سيرت تسييرا حسنا ستقفز بموريتانيا قفزة تنموية لم نكن نحلم بها في المستقبل القريب. حيث سيضمن الاتفاق لموريتانيا التحول الأخضر، إذ سيعمل الفريق الأوروبي على تطوير وإنتاج الهيدروجين في موريتانيا للاستعمال المحلي و التصدير، و ستستفيد موريتانيا حكومة و شعبا من إنشاء طريق سريع بين العاصمة نواكشوط و العاصمة الاقتصادية نواذيب و بمعايير و إشراف أوروبيين بالاضافة إلى خط لنقل الكهرباء 1400 كلم من نواكشوط إلى الأقصى الموريتاني مدينة النعمة ، هذا زيادة على محطات تحويل الكهرباء و محطة للطاقة الشمسية في كيفه. ناهيك عن التحول الرقمي من خلال كابل بحري لمضاعفة قوة الانترنت و انشاء قاعدة تحليل البيانات في انواكشوط من أجل رقمنة السيادة الوطنية و دعم الأمن و مبادلات البيانات. حماية و تطوير الثروة البحرية و دعم الصيد عبر بناء البنا التحتية العصرية و الملائمة. من خلال هذا الاتفاق سنستطيع تدعيم أمننا الاقليمي نعم الامن من خلال دعم الجيش عبر تكوين الكادر و تأطيره ، زيادة للمعدات العسكرية للتصدي للارهاب و حماية الحدود مع مالي.
إن نقطة المهاجرين التي اثارت غضب و اذكت جذوة النقاش في البلد لا تتحدث البتتة عن توطين لمهاجرين أو اعادتهم من أوروبا لموريتانيا، و أي عقل يفكر بهكذا الأسلوب لهو معطوب. إن القانون الدولي لا يسمح بذلك و سيادة الدولة الموريتانية تتنافى وذلك و دستورالجمهورية لا توجد به فقرة واحدة يمكن استنطاقها أو تفتح ظفرين لهكذا اجراء. فمن أين جاء هذا التفسير ؟ فإن لم تكن هذه الاستخلاصات ضد الوطن و المواطن فماهي إذن؟
إن المهاجرين هي ورقة (البوكر) و هي كذلك واقع موريتاني و طني لا يمكن تجاهله وعدم التعامل معه، لأنها واقعنا الاقليمي و امتداداتنا الثقافية و الدينية و الاجتماعية. وليس في الأمر كله سوى أن هذه الورقة المربحة جدا ستصبح بأيدينا بعد أن كنا محرومين مما تدره من أموال رغم أننا نتأثر بها ، بل كنا معبرا للمهاجرين و مسيرا لاجراءاتهم دون أي مقابل .
لقد كانت ورقة الهجرة بيد كل محيطنا الاقليمي المغاربي -كتونس و المغرب و ليبيا و إمتدادني الديني كتركيا)، وقد اصبحت ورقة اليانصيب الموريتاني و التي سنجني منها كما كانت تفعل كل دول الجوار. ولذلك من المنطقي جدا أن يحاول بعض عملاء تلك الدول أن يشوش على الرأي العام الوطني و يغالطه. إن منح موريتانيا الثقة في تسيير إجراءات المهاجرين مقابل مبلغ 210 مليون يورو سوف يخلق وظائف محلية لا تحصى و يكسب سيستمنا القضائي خبرة في المجال و يحرك نظام الخدمات لدينا من تعليم و تأمين، تماما كما كان يستفيد المغرب و ليبيا و مصر و تركيا و غيرها . إن الذين يقللون من قيمة 250 مليون يورو لموريتانيا مقابل 500 مليون يورو للمغرب، دون الأخذ بعين الاعتبار الناتج المحلي للدولتين فليس هو فقط بظالم موريتانيا بل يجعل من نفسه أضحوكة، حيث تأتي المغرب $3,856 مع 38,211,459 نسمة و موريتانيا $2,074 مع 4,993,922 نسمة. الآن فقط يحق لنا مقارنة الرقم 250 مليون يورو الذي ستحصل عليه موريتانيا.
إن شبح الهجرة هو السلاح الوحيد الذي منحه الله لدول العالم الثالث للضغط من خلاله على الغرب و ابتزازه. إننا كنخبة وطنية علينا ان نقف خلف الاتفاقية و ندعمها بغض النظر عن انتماءاتنا السياسية و حساسياتنا الاثنية و مشاربنا الايديلوجية وليكن دعمنا للاتفاقية عبر المساهمة في رفع سقف التفاوض و توسيع الاطار المرجعي له. فعلى الوفد الموريتاني أن يضع في مقترحه فتح مسالخ عصرية و بمعايير أوروبية لفتح السوق الاوروبي أمام انتاجنا من اللحوم و الالبان و مستخرجاته, و عليهم أن يقترحوا مركزا لخدمات الاتصال يتكون فيه الشباب على الخدمات الدولية و يؤهلهم للسوق العالمية بل و أكثر.
إن تاريخ موريتانيا الطويل فتسيير ملف اللاجئين و التزاماتنا كدولة موقعة على الاتفاقيات الدولية و الاقليمية لحماية اللاجئين (جنيف 1951 و البروتكلين المكملين لها واتفاقية الاتحاد الافريقي ) يجعلنا مؤهلين أكثر من غيرنا لتسيير ملف المهاجرين. حيث نحتضن مخيم اللاجئين في مخيمات امبرة حدود سبعين الف لاجئ, بالإضافة 12 الف لاجئ في المناطق الحضرية تسيرهم المفوضية السامية للامم لشؤون اللاجئين . إن نجاحنا في تسير آلاف اللاجئين في المخيمات و المدن الحضرية يجعلنا ضالة الاتحاد الاوروبي التي يبحث عنها.
و لقد حان الوقت لنا كدولة وشعب أن نقرر ما إذا كنا سنبقى هامشيين متسكعين على رصيف العالم أو نوقع هذه الاتفاقية لتكون طوق النجاة لنا و إلا فإننا أمة مقضي عليها لا محالة.
المصادر:
البوابة العالمية للاتحاد الاوروبي : إانشاء روابط و ليس تبعيات(2021). https://www.eeas.europa.eu/eeas/
U.S.-Africa Leaders Summit 2023./ https://www.state.gov/africasummit
هل تتمكن الصين من رأب الصدع بين المغرب و الجزائر: https://www.aljazeera.net/midan/reality/economy/2021/4/22/
الشراكة الموريتانية الاوروبية 2024 EU-Mauritania Partnership: EU-Mauritania_factsheet.pdf.pdf
The Group of Seven (G7) is an intergovernmental political and economic forum consisting of Canada, France, Germany, Italy, Japan, the United Kingdom and the United States;
Christina Lu 2023. The move comes straight out of China’s Belt-and-Road playbook/Lobito Corridor: The U.S.-China Critical Minerals Race in Africa Is Heating Up (foreignpolicy.com):