غزة ترسم معالم المستقبل

بشارة مرهج

الولايات المتحدة الاميركية زعيمة الرأسمالية المتوحشة في العالم تقترب تدريجا من حائط مسدود بسبب ارتفاع دينها العام الى مستويات فلكية (35 تريليون دولار) و استمرار انفاقها الهائل على القطاعات العسكرية و الامنية و الاستخباراتية ، كما بسبب تفشي فساد و جشع الفئات المالية و المصرفية الحاكمة ، فضلا عن تردي بنيتها التحتية و خسارتها لتفوقها الانتاجي مقابل تقدم الاقتصاد الصيني بوتيرة يصعب تجاوزها . كل ذلك يسهم ،داخليا ، في تفاقم الازمات الاجتماعية و السياسية التي ترخي بثقلها على واشنطن ، كما يتسبب بتأكل نفوذها في العالم مما يضعها امام خيارين كلاهما مر : اما العودة الى سياسة الانكفاء و العزلة او تقوية مركزها العسكري في العالم . الخيار الاول يزلزل زعامتها و نفوذها في العالم في ظل صعود الحلف الروسي الصيني و نمو الروح التحررية في العالم و عودة الاتحاد الاوروبي الى البحث عن طريقه الخاص ، و الثاني يفرض عليها زيادة الانفاق العسكري وبالتالي نمو الدين العام الذي تعجز واشنطن حاليا عن تسديد فوائده السنوية التي تناهز الف مليار دولار.
حتى الان يبدو الخيار الثاني غالبا وهذا ما يفسر ضيقها بحرية الرأي و التعبير بالتزامن مع عدوانيتها المتجددة على غزة و الصين و موسكو و سائر العواصم التي ترفض الخضوع و التبعية للتحالف المصرفي الصناعي العسكري المهيمن على أمريكا.
وفي هذا السياق يمكن ان نفهم معنى وأبعاد صمود غزة البطولي بوجه العدوان الدموي الذي يشنه التحالف الأميركي الصهيوني على شعب محاصر منذ عشرات السنين.
فهذه الحرب إذ تستهدف انهاء القضية الفلسطينية عبر كسر غزة و تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه  وأرض أبائه واجداده ، انما تستهدف أيضاً استعادة هذا التحالف العدواني لنفوذه في المنطقة والعالم ،  خاصة بعد ان إنحسر هذا النفوذ وتضررت هيبة ومكانة كل من واشنطن وتل أبيب.
واستعادة هذا النفوذ بالنسبة للتحالف العنصري هو توطئة لبسط هذا التحالف سطوته وسلطته على المنطقة بأسرها وفرض التطبيع عليها وارغامها على تسليم كل أوراقها وثرواتها بما فيها منابع النفط والغاز وخطوط النقل والمواصلات بما يمكنّها من احتواء أوروبا وتشديد الحصار على موسكو وبكين .
غير أن الشجاعة التي يبديها الشعب الفلسطيني في مقاومته للغزو الصهيوني – الأميركي  وردة فعل الرأي العام العالمي الذي أثبت حضوره في زوايا الأرض الأربع ، كل ذلك يدفع قيادات تل أبيب الى التردد والانقسام، كما يدفع واشنطن الى مناشدة تل أبيب  تعديل أسلوبها الوحشي لتخفيف الاحراج عن حلفائها من جهة ، وتحقيق الهدف المشترك من جهة أخرى .
إن غزة اليوم ومعها فلسطين  وكل القوى المؤازرة لها في وضع تاريخي يؤهلها لتغيير المعادلات الإقليمية والدولية . فباستمرار هذا الصمود الفلسطيني الأسطوري ،  الذي ألهم شعوب العالم ، لن يتمكن التحالف الدموي من فرض شروطه الفظيعة على الشعب الفلسطيني المتمسك بأرضه وحريته واستقلاله . وهذا التطور من شأنه أن يفتح صفحة جديدة في تاريخنا المعاصر وعنوانها: غزة تصمد وتتقدم خطوات، والعدوان يرتبك ويتراجع خطوات، مع ما لكل ذلك من تأثير على موازين القوى وحركة الأحداث في المنطقة والعالم .

نقلا عن رأي اليوم 

ثلاثاء, 21/05/2024 - 17:56