الضربة القاضية الفلسطينية!

خالد شــحام

صبيحة الأمس بدأت تصلنا الصور التي خلفها جيش المخربين عقب انسحابه المذل من مخيم جباليا ، هذه الصور بالذات هي الفقرة المفضلة للمغول الاسرائيلي حيث ينتشي من خلالها بإظهار رسالته بالبطش والقوة ، لم يتركوا تفصيلا حيا أو جامدا إلا قتلوه ، و مع ساعات المساء يطل علينا الرئيس الأمريكي في خبر عاجل بطرح مبادرة جديدة (اسرائيلية ) حسب زعمه بادئا الحديث بأن الأوان قد حان لإيقاف هذه الحرب اللامنتهية ، فما الذي يجري خلف هذه البوابات ؟
عندما وقعت أحداث 7 أكتوبر الخالدة شعرت وقتها  بأننا ندخل بوابة حلم لم يكن أحد ليتخيل وقوعه في حيز الشقاء العربي المقيم في بلادنا  ، تمنيت وقتها بقلب منقطع الأمل وعين باكية لو أن أبي كان حيا ليشهد هذا الحدث الذي كان سيشفيه من كل آلامه في هذه الدنيا .
أيام قليلة حتى بدأت الهمجية والوحشية الأمريكية- الاسرائيلية بشن عدوانها على غزة وإشهار  أهدافها القاتلة  بوجه مشروع التحرر الفلسطيني : اجتياح غزة ، القضاء على المقاومة ، إعادة احتلال القطاع ، تهجير الشعب الفلسطيني  إلى المجهول ، كل واحد من هذه الإعلانات كان كافيا بتسميم كل ساعة من أيامنا ووضعنا جميعا في القمقم الصهيوني وإلقائنا في قاع بحر الظلمات العربي إلى الأزل ، كان القصف المتواصل وعداد الشهداء والبوارج الأمريكية وتشكل حلف الشيطان الجديد وتكالب الأمم على غزة  وقطع الماء والغذاء والكهرباء مجرد ضمانات مؤكدة بأن تحقيق أهداف العدوان هي مسألة وقت فقط ، ولذلك دخلنا جميعا في غيبوبة الرعب ، الرعب على مصيرنا جميعا  والخوف من كسر شوكة المقاومة الفلسطينية لأننا نعلم علم اليقين بأن كسرها سيعني دخول أمة العرب في نفق التيه وإعادة ربطنا جميعا بحبل طويل واحد ممتد من حظيرة الشرق إلى حظيرة الغرب ، كنا ننام مع القصف ونصحو مع صفوف الموتى ذوي الأجنحة ، كنت أدعو ربي بقلب خالص ألا يكسر نفوسنا بهؤلاء الأبطال وأن يجبر ضعفنا ويرينا شيئا ولو قليلا قبل نفاذ هذا العمر .
في أرجوحة شهور الرعب تلك ، كانت غزة تنسحب بعيدا من قوانين الطبيعة دون ان نعرف كيف ، سحبها الشهداء إلى عالم الميتافيزيقا المليء بالإيمان والبطولة والصمود حيث لا تنطبق كل القوانين المادية وتذوب الرتب العسكرية والسياسية ، لم تنحني غزة وفقا لقوانين نتانياهو الفيزيائية في الإرهاب والترهيب ، لم يتمكن جند القيصر الأمريكي ولا بوارجه ولا صواريخه التي تهدم عمارة كاملة بلكمة واحدة  من إرجاع أسير واحد ،  لم يتمكن القصف المميت ولا الذكاء الصناعي من كسر الإرادة الفولاذية للمقاومة وتبين أن شعب غزة هو معجزة العصر حتى مع الموت والتجويع والحصار والحرق والتقطيع والقذائف التي تطارد النازحين من مكان إلى مكان ، في الحقيقة المريرة التي انقلبت بالتدريج إلى طعم الحلاوة تمكنت المقاومة الفلسطينية مع لبنان واليمن والعراق من الوقوف في منتصف البلعوم الاستعماري حتى خنقت أنفاسه ، لقد تمكنت من تسديد ضربة كبرى للمشروع الإمبريالي -الصهيوني في المنطقة العربية ، ليس هذا فحسب بل هي كل يوم تؤسس قواعد النهاية القاضية الكبيرة للعصابة وطموحها وأحلامها ، لقد أصبحت غزة قانون الطبيعة الجديد في مدارس الحرية والتحرر وستكون غزة  بمثابة جيفارا العربي الذي فكك زرد السلاسل عن أمة تغط في الجهل والسجن الأخير.
 قد يتخيل البعض وبعد شهور ثمان من القتال والقتل والتدمير بأن أعلى الطموح هو تحقيق وقف العدوان الإرهابي وإدخال المساعدات ومن ثم  لاحقا تحقيق بعض الرضى السياسي لكل الأطراف ضمن معادلات اتزان القوى والضغوط الدولية والاقليمية  ، لكن الحقيقة التي تكبر و تتأكد كل يوم تقول بأن شجرة المقاومة الفلسطينية الخضراء أينعت وكبرت وتمكنت من تحقيق مكتسبات تجاوزت الأرض الفلسطينية والعربية  حتى قبل أن يستسلم الكيان ويعلن قبوله بشروط المقاومة في القريب العاجل ، لقد اشتغل العدو على نفسه وتمكن بفضل استحكام شره واستكباره  في تجيير كل قطاف أعماله لصالح القضية الفلسطينية وتحقيق النصر الأكيد لهذه المقاومة التي احتملت ما لا تحتلمه كل جيوش المنطقة العربية ، ما هي معالم هذه الضربة القاضية التي تلقاها العدو في غزة ؟
إن الملمح الأهم الذي يبرز من خلف كل المشاهد التقليدية هو نجاح وانتصار النموذج الفكري للمقاومة الذي دمج الفكر العربي -الإسلامي -القومي ووحده في ظرف زماني -مكاني واحد ومزق كل الأوراق القديمة المدعاة وأثبت فعالية ونجاح هذا الفكر في الوقوف ضد المرحلة الصهيونية بكل مدخلاتها ، هذه الروح ذات القدرات العجيبة وحدت العجم والعرب في الانضمام لصوت الحق ، لقد أسقط هذا النموذج الحملة الدعائية الأمريكية -الصهيونية والتي كثير من اعضائها عرب ومثقفون وحملة شهادات والتي حاولت طعن الثقافة الإسلامية طيلة سنوات الخسران الماضية ، لقد تم لصق التهم المحضرة في المعامل الأمريكية من الإرهاب والتخلف والأخونة والداعشية والباطنية والعدوانية وحققت المقاومة بسلوكها وإدارتها واخلاقياتها الإسلامية نموذجا فذا في الإنسانية ، سدد لكمة هائلة الحجم للنموذج الأخلاقي الرأسمالي الذي يمثله حلف الشيطان بكل أعضائه ومريديه ، لقد تكلمت المقاومة باسمنا جميعا بأننا شعوب إنسانية صابرة مسالمة ذات أخلاق رفيعة الدرجة وقادرة على عمارة الأرض والإنسان بأفضل مما يفعل نموذج الرأسمالية ، حضارة النار والمعدن التي أفسدت الحرث والنسل .
إذا تعاملنا مع بعض التواريخ الأقرب كوحدات زمانية مركزية  مهيمنة ومسيطرة على ما حولها من السنوات ، فإن تاريخ 11 أيلول يمثل وحدة زمانية اشتغلت 22 عاما من الضنك والإذلال والتجبر وقلبت حياة الشعوب العربية والإسلامية رأسا على عقب وتسببت في تداعيات عميقة وبعيدة المدى ،  وتاريخ 13 أيلول يمثل وحدة زمانية أخرى قلبت حياة الشعب الفلسطيني ونضاله رأسا على عقب ، هاتان  الوحدتان الزمانيتان سقطتا في تاريخ 7 أكتوبروانتهى مفعولهما  وتولدت وحدة زمانية جديدة فرضت نفسها فرضا على العملاق الاستعماري الذي ظن بأن الزمان طاب له وتحققت له أحلام السيطرة والتجبر على المنطقة ، لقد أسس تاريخ 7 أكتوبر وحدة زمانية ستمتد حتى النهاية وسدد ضربة قاضية لمشروع أحداث أيلول الاستعماري ومشروع أوسلو الاستسلامي  وفتح الآفاق لمشروع تحرري أكبر بكثير مما يتخيل عبدة  الذل .
لقد أعلنت غزة بالسبق انتهاء صلاحية ما يسمى بالنظام الدولي الفاسد والظالم الذي احتل واجهة التحكم والسيطرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وحتى اليوم ، نظام تعرى بكل الأبعاد وكشف عن ضآلة وعيه وفهمه للعالم وكنا نحسبه محنكا وحكيما ، نظام ظالم قائم على الانحياز الأعمى لمصالحه مهما كانت الأثمان ، لقد فشل هذا النظام في معالجة كل القضايا الساخنة وأعلن فردانية الولايات المتحدة في الاستكبار والاعتداء والاحتلال لأفغانستان والعراق واشعال الحرب في أوكرانيا وأي مكان في العالم تقتضيه مصلحة الولايات المتحدة ، نظام تبين أن قياداته قزمة وعديمة الحكمة وفاقدة لأية رؤية عقلانية أو متزنة ، قيادات يلخصها لكم شخص من أمثال (جيك سوليفان) الأملس عقب اقتحام رفح ( أشعر بأنهم لم يتعدوا الخطوط الحمراء ! ) ، هذا النظام تعرى وكشف عورات كل مؤسساته من مجلس الأمن حتى المحاكم الدولية و خارطة الصهينة المتشعبة  وأصبح من الضروري إجراء المراجعات الشاملة بحقه شعبيا ورسميا ، لقد قرعت غزة الجرس الكبير وحكمت بأن هذا العالم يجب أن يتغير نحو العدالة والإنصاف وإعادة الحقوق والأحداث إلى مكانها الصحيح .
إن الضربة القاضية الفلسطينية لم تكن ليليق بها هذا الوسم لولا أنها وقفت في وجه العدو الحقيقي وهو الكيان الاستعماري داخل الولايات المتحدة والذي يمثل الكيان الصهيوني ذراعه العسكري ، إن اختلاف النسبة بين حجمي الضحية والمستكبر بنسبة واحد إلى مليون وتمكن الضحية من الصمود والوقوف وتحقيق نتائج والتسبب في إخفاق الطرف الآخر يمنح هذا الخصم جائزة الضربة القاضية ، إن هذا النجاح ليس عسكريا بل هو سياسي واجتماعي وكوني أيضا ، يسجل لليمن العظيم في هذه النقطة النصيب الأكبر .
من أهم معالم الضربة الأكبر التي تلقاها العدو الصهيوني- الأمريكي  سقوط دعاية التفوق الأخلاقي الأوروبي أمام  الضمير العالمي ، لقد أظهرت وحشية جيش العدو بان هؤلاء ليسوا إلا حفنة من الحثالة البشرية والزعران والمجرمين ، قيادة وجيشا وشعبا ، مستوى من الكذب والتزييف السطحي المفضوح الذي أكد وعزز انهيار كل روايتهم وكل مستنداتهم الحاضرة والماضية ، مستوى من التعالي والاستكبار على سائر الدول والأمم والشخصيات العالمية والتي نبذتهم وبصقت على نموذجهم .
6-لقد ثقبت المقاومة في غزة ولبنان واليمن والعراق  نظرية مناعة العدو الإعجازية التي يتمسك بها النظام العربي ، ثبت بالدليل القاطع بأن أسلحة بدائية وذات كفاءة محدودة تساوي كل جيوش العرب وأجهزتها ومعداتها وعسكرييها والسيول المالية التي تنفق عليها لحماية الاستعمار وبقائه وقواعده ، ثبت بالدليل القاطع أن الثروات الهائلة  مخصصة لحصار واعتقال العقل العربي وإبقائه في دائرة التبعية والضعف والعبثية وبرهنت المقاومة بأن شعوب العرب ليست ضعيفة ولا متخلفة ، بل فيها قيادات بارعة مخلصة و يمكن بميزانيات محدودة نظيفة الاستثمار في طاقات شباب الأمة للوصول إلى امة متحضرة متفوقة .
7-وجهت المقاومة ضربة قاتلة لفكرة غلبة التقنيات الحديثة وترهيب الذكاء الصناعي ، لقد قدم العدو الصهيوني مستوى ادائيا عسكريا متدنيا جدا في كل ألويته ، من النخبة حتى السكراب ، مستوى من الأداء القتالي الجبان والذي يتمتع بأعلى معاملات النذالة والهزال المعنوي ، ومن هذا الباب تمكنت المقاومة الفلسطينية من تسديد ضربات مؤلمة وقاتلة لهذا الجيش المخرب وربما وصل عدد القتلى من جيشهم الهزيل بما يفوق 5 آلاف جندي وفقا لتقديرات الخبراء .
8-على الصعيد الدبلوماسي والحقوقي ، تلقى العدو الجبان ضربة موجعة جدا أطاحت بهيبته ومكانته وسمعته الثابتة طيلة السنين ، لقد تم الإدعاء عليه في المحاكم الدولية وصدرت قرارات إدانة غير مسبوقة ، تعرضت الإدارة الأمريكية لأزمة ضغوط وحرج كبيرين بسبب ضعفها وسوء تقديرها لعدوان غزة ودعمها له وكشفت اوراقها حول زيف مواقفها وحقيقة قيمها الزائفة ، على الصعيد الداخلي تسببت غزة في تمزيق النسيج الداخلي لهذا الكيان حكومة وشعبا ودفعت بهم إلى الهذيان .
9-لقد كان وجود ما يسمى بالحكومة اليمينية المتطرفة لعنة على كل العالم ، لكن تبين في ميزان الضربة القاضية أن وجود هذه الكائنات  هو متطلب ضروري  لتحقيق فكرة الرؤية الحقيقية بلا ضباب السامية وشعب الله المختار والجيش الأكثر أخلاقية والشعب الأكثر انفتاحا وتحررا ، لقد كانت هذه المخلوقات بتصريحاتها وحقدها وطلباتها وإصرارها على القتل والدموية دليلا دامغا على جوهر الصهيونية التي تحكم عالم اليوم والتي ينبغي التخلص منها من أجل سلام العالم كله وليس الفلسطينين وحدهم ، لقد نالوا ضربة انكشافية من كل شعوب العالم ومن تظاهرات طلاب الجامعات الغربية ، حتى زلمهم وحلفاؤهم أصبحوا في وضع محرج ومخجل مما يقترفون .
10- لكل الأسباب السابقة يمكنكم الان فهم ما يجري ، مبادرة الرئيس بايقاف الحرب ، المطالبة بحل الدولتين ، البحث عن السلام والتطبيع  والهدوء الشامل ، كل هذه ليست إلا أداوت انقاذية للمشروع الصهيوني الذي تلقى الضربة القاضية الفلسطينية واللبنانية واليمنية لأنه قاب قوسين أو أدنى من السقوط .
سأكتفي بهذه النقاط كي لا تلقي بي السيدة مها في الدرك الأسفل للصحيفة ، ستثبت لكم الأيام والأحداث أن وقفة في غزة اليوم مع كل هذه المآسي ربما تساوي الدنيا وما فيها لكل متبصر ، إنها أرض الموقعة التي ستغير مجرى التاريخ  وتحكي لكم كيف تمكنت من كسر حلف الشيطان بالضربة القاضية  في الوقت الذي تتفرج فيه القوى العظمى منسحبة من مسؤولياتها التاريخية ، إن تراب غزة المخلوط بالدم ورماد الحريق يتحول في ميزان هذا الكون إلى التبر المكلل بنصر الله القريب ، طوبى لكم أيها الصادمدون وسط الحريق والقصف والموت ، لقد أنقذتم امة العرب وربما هذا العالم بأكمله ودخلتم التاريخ من اوسع أبوابه .
كاتب عربي فلسطيني

نقلا عن رأي اليوم 

اثنين, 03/06/2024 - 09:15