ثمة قولة مأثورة في العلاقات الدولية، تقول بأن السلم هو استمرار للحرب بطريقة أخرى، ومضمونها أن الحرب مهما تم الرهان عليها في الضغط وتقوية التفاوض، فإنها لا يمكن أن تبقى إلى الأبد، وأنه في لحظة معينة، لا بد أن يحل الذكاء محل القوة، وأن يتم تشغيل أدوات الصراع الأخرى خارج منطق الحرب.
في العدوان الإسرائيلي على غزة، باتت المفاوضات أمرا معضلا، ليس لأن العدو الإسرائيلي وفصائل المقاومة لا تريد إنهاء الحرب، بل لأن العدو الإسرائيلي حتى اللحظة لا يزال يعتقد أنه يملك أدوات ضغط تمكنه من إيقاف الحرب وفق شروطه.
وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية والعربية، تتحدث عن العوامل التي تعيق نجاح صفقة التفاوض، ويرجعونها إلى الشروط المتجددة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فيما وجهات نظر تحليلية وازنة تتحدث عن الخلط الواضح بين المصالح القومية والشخصية في السلوك التفاوضي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، لكن، في التقدير يبدو الأمر أبعد من ذلك.
حماس وفصائل المقاومة تملك ورقة قوية للتفاوض هي الأسرى من الجنود الإسرائيليين والمحتجزين من المستوطنين الذين تم استقدامهم من غلاف غزة غداة طوفان الأقصى، والعدو الإسرائيلي، طيلة أزيد من عشرة أشهر من الحرب، على الأقل كما يبين واقع سلوك الجيش الإسرائيلي، لا يملك إلا ورقة الضغط العسكري واستهداف المدنيين.
العدو الإسرائيلي منقسم داخليا حول أولوية استرجاع الأسرى والمحتجزين، على الأقل في الطريقة، فهناك رأي يقول بأن طريقة إرجاع هؤلاء بأفضل الشروط، هي مزيد من الضغط العسكري، وبعض قادة الاحتلال، خاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي، يحتج بمرونة حماس في التفاوض في شهر مايو الماضي، وأن ذلك لم يكن ليقع لولا الضغط العسكري، وفي المقابل، هناك رأي آخر، يرى أن هذا إسرائيل لم تجلب من وراء الضغط العسكري سوى مزيد من العزلة الدولية، والضغط الدولي عليها لإيقاف الحرب، ولم تستطع أن تكسب أي شيء على مستوى استرجاع الأسرى.
في الواقع، لقد وقع انحراف كبير في التقييم الإسرائيلي، ففي الوقت الذي كان فيه التركيز منصبا بدرجة أساسية على تقويض قدرات حماس القتالية وإنهاء سلطتها على قطاع حماس، توارى هذا الهدف في الخطاب الإسرائيلي، وتم الاستعاضة عنه بتصفية القيادات السياسية عبر سياسة الاغتيال، التي في الواقع، لم تقدم شيئا، سوى أنها فتحت نافذة لإمكانية توسيع الحرب إقليميا، وجعلت المفاوضات أكثر صعوبة مقارنة مع ما قبل، فحماس، بعد اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، لم تعد ترى فائدة في الدخول لمفاوضات، لا يدرى مضمونها، وهل تستأنف على قاعدة ما تم الانتهاء منه في شهر مايو الماضي، أم تدخل بشكل عبثي لمفاوضات، تدري مسبقا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، أضاف عليها شروطا جديدة، لم تكن في السابق محل قبول فلسطيني.
في الواقع، ثمة مشكلة مضمرة، تفسر هذا الجمود في الوضع، وتأتي الدعوة إلى المفاوضات اليوم لتغطي عليها، فإسرائيل لا تستطيع أن تذهب إلى المفاوضات وهي لا تعرف جوابا عن سؤال مستقبل غزة بعد الحرب، والقيادة السياسية ممثلة في رئيس الوزراء الإسرائيلي، لحد الآن لا تملك أي رؤية عما يسميه الإسرائيليون «اليوم التالي».
رئيس الوزراء الإسرائيلي، يدرك أن الدخول للمفاوضات بهدف استرجاع الأسرى والمحتجزين، سيمثل في نهاية المطاف العودة إلى نقطة الصفر
فصائل المقاومة على المستوى التفاوضي توجد في وضع أفضل، وإن كان الألم على المستوى المدني يمثل ضاغطا لكنه لا يرتفع لدرجة تغيير محدداتها التفاوضية، فهي من جهة مستمرة في القتال وبأساليب موجعة للعدو، وتملك قواعد إسناد من محاور المقاومة المختلفة، التي تتحرك بشكل يزداد ضغطا على العدو الإسرائيلي كلما اقتربت نهاية عطلة الصيف، ويضعف أداء الاقتصاد الإسرائيلي بشكل يومي، وفي إطار متصاعد، وفوق هذا وذاك، فهي في محور الإسناد الشعبي العالمي، وفي بؤرة التوتر لدى صناع القرار السياسي الدولي، بسبب ما يسببه الدعم الإسرائيلي من حرج بالقياس إلى القيم والقوانين الدولية الإنسانية.
نقطة قوة إسرائيل الوحيدة هي قوتها العسكرية وأنها تملك دعما أمريكيا وأوروبيا واسعا، وتطمئن إلى أنها في مركز عناية أمنية دولية، وأن سياستها الإجرامية في أسوأ الأحوال لا تتعدى الشجب والإدانة الخفيفة المشفوعة بالتوجيه إلى ضرورة «الانتباه إلى تجنب المدنيين في هجماتها المقبلة» لكن نقطة ضعفها الكبيرة، أنها من جهة تحتاج إلى تحقيق هدف إعادة الأسرى والمحتجزين وهو ما ليس بيدها إلى الآن، وتحتاج إلى قطاع غزة من غير حكم حماس، وهو ما لا تملك بصدده رؤية قابلة للتطبيق إلى اللحظة لأنها لم تستطع من خلال آلية الحرب تدمير قدرات حماس وتفكيك سلطتها، ثم تضاف نقطة ضعف أكبر تتمثل في حدة الانقسام الإسرائيلي، الذي مس كل الوحدات، العلاقة بين القيادة السياسية والعسكرية، والعلاقة بين القيادة السياسية والأجهزة الأمنية، والعلاقة بين مكونات الطيف السياسي، والعلاقة بين مكونات المجتمع المنقسم حول الحرب وضرورة استمرارها أو وقفها.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، يدرك أن الدخول للمفاوضات بهدف استرجاع الأسرى والمحتجزين، سيمثل في نهاية المطاف العودة إلى نقطة الصفر، أي الاستجابة إلى خطاب المقاومة منذ السابع من أكتوبر، أي ضرورة إنهاء الحرب ووقف العدوان والانسحاب من قطاع غزة وتسريح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين.
إسرائيل تقبل هذا الجزء من الخطاب لا مشكلة، وإن كانت تتعنت في بعض تفاصيل التنفيذ، وهذا ليس هو معضلة التفاوض اليوم، إنما المعضلة في مستقبل غزة بعد إنهاء الحرب، وبالتحديد مستقبل «حماس».
العديد من المحللين يشككون في مسار هذه الجولة التفاوضية الجديدة، ويعتبرون أن قصدها تجنيب إسرائيل من رد إيران و«حزب الله»، ويعتبرون حتى تهديد «حزب الله» وإيران بالرد طيلة هذه المدة بمثابة ضغط سياسي لإسرائيل على وقف الحرب، لكن من وجهة النظر الإسرائيلية، الأمر مختلف، فهي تكسب من تأجيل رد إيران و«حزب الله» وقتا يمكنها من تأمين مزيد من العسكرة الأمريكية للمنطقة وضمان إمدادات جديدة من السلاح الأمريكي والأوروبي، وتكسب لأن المفاوضات الجديدة ستضمن لها على الأقل شهرا من الزمن السياسي الذي تأمل أن يساعدها في تملك رؤية ما لمستقبل غزة بعد الحرب.
الأمريكيون مع اختلافهم الحاد حول هذه القضية، يتفقون أنه لا يمكن أن يكون استمرار الحرب بديلا عن عدم تملك إسرائيل لرؤية ما بعدها في قطاع غزة، وأن الخيار الأفضل اليوم، هو تغيير البوصلة، أي العودة لما قبل السابع من أكتوبر، مع الاشتغال على « الاندماج الإسرائيلي في المحيط الإقليمي» لخلق واقع على المستوى المتوسط أو البعيد يصير فيه بقاء حماس في السلطة أمرا مستحيلا من غير كلفة عسكرية.
الخلاف بين إسرائيل وأمريكا اليوم، ليس على أكثر من المدى الزمني لإنهاء حكم حماس، فرئيس الوزراء الإسرائيلي، يرى أن إنهاء الحرب مع بقاء حماس في السلطة يعني هزيمة سياسية ونهاية مساره السياسي، بينما ترى واشنطن، أن نهاية حماس في قطاع غزة ممكنة، لكن ليس اليوم، وإنما في الوقت الذي تتمدد فيه إسرائيل عربيا، وتصير أكثر «اندماجا في المحيط» وأنه من الضروري اليوم، سحب هذه الورقة من يد إيران وحلفائها، فهؤلاء في نظر أمريكا إن استمرت إسرائيل في سياستها الحالية، فإنها تساعدهم على القضاء على مكتسب إسرائيل في محيطها الإقليمي، بل وتضع الشروط الأساسية لتهديد أمني وجودي لها في المنطقة.
نقلاعن القدس العربي