محاكمة نتنياهو: اختبار للعدالة الدولية

عصام نعمان

نتصدى اليوم لعدوّين شرسين: «إسرائيل» وأمريكا. لا يمكن الفصل بين «إسرائيل» الصغرى و»إسرائيل» الكبرى. فلا فعالية ولا بقاء للصغرى من دون الكبرى. هكذا كان الوضع وما زال مذّ قامت «إسرائيل» الصغرى سنة 1948 ولغاية أول تحدٍّ حقيقي لها بطوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة ولبنان منذ خريف سنة 2023. أخيراً وبعد طول مماطلة وتأخير أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بالإجماع قراراً باعتقال رئيس حكومة «إسرائيل» بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت للتحقيق معهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتجويع بحق سكان غزة المدنيين.
بعد يقظة المحكمة الجنائية الدولية من سباتها المفروض عليها بضغوط هائلة من الولايات المتحدة و»إسرائيل»، تنتصب أسئلة صارخة: ما معنى قرار اعتقال مجرمَي الحرب الصهيونيين؟ ما معوّقات تنفيذه؟ ماذا يقتضي أن يفعله الفلسطينيون واللبنانيون وسائر العرب المؤيدين لهذا القرار التاريخي، بغية وضعه موضع التنفيذ والعمل مع سائر أحرار العالم من أجل توظيفه لبناء نظام عالمي جديد متحرر من هيمنة الولايات المتحدة؟ في مجال الإسهام بالأجوبة المتوخاة، يمكن طرح الأفكار الآتية:

لمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية قيمة قانونية مُلزمة لجميع الدول الأعضاء المنضمة إلى «نظام روما» المؤسس للمحكمة

أولاً: معنى قرار الاعتقال: وجدت المحكمة الجنائية الدولية في ضوء الطلب المقدم من دولة فلسطين، والتحقيق الذي أجراه المدعي العام لديها، أن القانون المتعلق بالصراع المسلح غير الدولي ينطبق على القتال بين «إسرائيل» وحركة «حماس»، وأن سلوك نتنياهو وغالانت يتعلّق بأنشطة الهيئات الحكومية والقوات المسلحة الإسرائيلية، ضد السكان المدنيين الفلسطينيين، وأن الأمر يتعلّق بالعلاقة بين قوة الاحتلال والسكان في الأراضي المحتلة، كما بجرائم الحرب، وأنه من المناسب إصدار أوامر الاعتقال وفقاً لـِ»قانون النزاع المسلح الدولي»، وأن الجرائم ضد الإنسانية كانت جزءاً من هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين في غزة، وأن هناك أسباباً للاعتقاد أن نتنياهو وغالانت حرما عمداً السكان المدنيين في غزة من أشياء لا غنى عنها لبقائهم، بما فيها الغذاء والماء والأدوية والإمدادات الطبية، فضلاً عن الوقود والكهرباء، وأن الشخصين المذكورين قاما بإعاقة وصول المساعدات الإنسانية، وبانتهاك القانون الإنساني الدولي، ما أدى إلى تعطيل قدرة المنظمات الإنسانية على توفير الغذاء والسلع الأساسية للسكان المحتاجين، ولقدرة المستشفيات على تقديم الرعاية الطبية. لذا وجدت المحكمة أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن «السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحمّلان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، ما أدى إلى وفاة المدنيين وحرمان جزء كبير من السكان من حقوقهم الأساسية، كالحق في الحياة والصحة ما يستدعي توقيفهما للتحقيق معهما».
ثانياً: مفاعيل قرار الاعتقال: لمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية قيمة قانونية مُلزمة لجميع الدول الأعضاء المنضمة إلى «نظام روما» المؤسس للمحكمة، ما يفرض عليها تنفيذ قرارها القاضي بتوقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت وتسليمهما إلى المحكمة. بإمكان نتنياهو وغالانت الدفاع عن النفس بالحضور أمام المحكمة، أو بعد تسليمهما من طرف دولة عضو في نظام المحكمة، حيث يمكنهما التقدّم بطعن في قرارها، مدعوماً بأدلة وقرائن تنفي عنهما التهم الموجهة إليهما. لا يبدو أن نتنياهو في وارد اعتماد السبيل القانوني، بدليل مسارعته إلى توصيف قرار اعتقاله بأنه شكل من أشكال معاداة السامية، متماهياً بذلك مع الهستيريا الجماعية التي تلف «إسرائيل»، حكومةً ومعارضةً، وتجاهر بتهديدات ضد المحكمة وقضاتها. الحالُ ذاتها سادت الولايات المتحدة، إذ وصَفَ الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن قرار الاعتقال بأنه شائن، ونُسبت الى خَلَفه دونالد ترامب ردود فعل سلبية مماثلة، مع وعيد بفرض عقوبات على قضاة المحكمة. غني عن البيان أنه في حال إقدام أي دولة على عمل منافٍ للقانون ضد المحكمة الجنائية الدولية، أو قضاتها أو المدعي العام لديها، فإن عملها يكون معَاقباً عليه من قِبَل محكمة مكان ارتكاب الجرم، أو من المحكمة الجنائية الدولية ذاتها. في مقابل القلة القليلة من الدول التي جاهرت برفض قرار المحكمة، ثمة اكثرية وازنة من الدول الـ 124 الأعضاء فيها أعلنت عزمها على توقيف نتنياهو وغالانت في حال حضرا إلى بلادها.
ثالثاً: في واجبات أحرار العرب والشعوب المحبة للعدالة والسلام: لعل أبرز آفات نظام المحكمة الجنائية الدولية افتقاده للأجهزة والآليات المختصة بتنفيذ القرارات الصادرة عنها. ذلك أدى إلى قيام دول عدة، منفردةً بتنفيذَ ما يروق لها من قرارات المحكمة أو الحؤول دون تنفيذها إذا كانت في غير مصلحتها. من هنا تنبع الحاجة القصوى إلى ضرورة قيام المنظمات الشعبية والجمعيات الأهلية بسدّ النقص الحاصل على صعيد تنفيذ القرارات الصادرة عن المحكمة، لاسيما ما يتعلق منها بحقوق الإنسان وقضايا العدالة والصحة وتنفيذ أحكام القوانين ذات الصلة. إنه لمن دواعي الحزن الشديد أن المنظمات الشعبية العربية، قصّرت في اغتنام فرصة نادرة تمثلّت في ذلك العطف الشعبي الأممي الجارف الذي حظيت به قضية فلسطين ومقاومة شعبها البطولية لعسف سلطات الاحتلال الإسرائيلي ووحشيته المدوّية بعد طوفان الأقصى، إذ لم تُبدع آليات ووسائل تواصل في ما بينها من جهة، وبينها وبين مثيلاتها في دول العالم من جهة أخرى بغية تعزيز الدعم المطلوب لقضية فلسطين على مستوى العالم برمته. آن الأوان لسدّ النقص والتقصير الآن وبسرعة بغية تمكين أحرار العرب وشعوب الدول المحبة للعدالة والسلام، من القيام بالواجبات والمهام الآتية:
*إنشاء «جامعة شعوب الأمة العربية»، أو «البرلمان العربي الشعبي» بغية تعبئة أحرار العرب وتنظيم نضالهم الهادف إلى دعم قضايا الأمة الأساسية في الاتحاد والحرية والديمقراطية، والعدالة وحكم القانون والتنمية، ونصرة الحركات الأهلية الداعية إلى تكريسها في دساتير الدول العربية، وتنظيم التواصل والتعاون بينها وبين الحركات الشعبية في دول العالم، التي تشاركها التزام مبادئ حقوق الإنسان، لاسيما ما يتعلق منها بنصرة الشعب الفلسطيني، أو أي شعب عربي يناضل من أجل الحرية والتحرير والعدالة والنهضة.
*الضغط على الدول العربية وسائر دول العالم بكل الوسائل المشروعة، لاسيما من خلال التعاون مع المنظمات الشعبية المماثلة لها في وطننا العربي، لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، القاضي باعتقال مجرمَي الحرب بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وتسليمهما إلى المحكمة المذكورة لإجراء المقتضى بحقهما، ومطالبة الدول العربية التي وقعت معاهدات صلح أو اتفاقات تطبيع مع «إسرائيل» بإلغاء هذه المعاهدات والاتفاقات، ومباشرة حملة عالمية لتجميد عضوية «إسرائيل» في الأمم المتحدة.
*إخراج جميع القوات الأجنبية وإلغاء قواعدها في كل الدول العربية، لاسيما في سوريا والعراق، لضمان قطع تعاونها مع «إسرائيل» في اعتداءاتها المستمرة على الدول العربية المجاورة لها.
*إنشاء الصندوق العربي للإعمار والرعاية، بغية مساعدة كل دولة عربية تتعرض لعدوان من «إسرائيل» أو من سواها، ولدعم مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.
بهذه الإرادة والتدابير الفاعلة يستطيع العرب وحلفاؤهم تطوير قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت بغية جعله مساراً متكاملاً لدحر «إسرائيل» وحلفائها.

نقلا عن القدس العربي 

اثنين, 25/11/2024 - 15:52