كنت في جلسة نسائية قبل أيام دار الكثير من الحديث فيها عن السحر. حكت بعض الموجودات ما تيسر لهن من قصص السحر، وتفاعلت المستمعات بغضب مع الأشرار طالبي السحر وبتعاطف مع المساكين ضحاياه، وامتلأت أجواء الجلسة النسائية الحميمة بآهات الاستنكار وهمهمات الاستغفار على ما يأتيه البعض الشرير، وكان كل البعض الشرير هذا من النساء في الواقع، ضد البعض الآخر، وهذا يتنوع بين رجال ونساء، من أجل حاجات دنيوية رخيصة، وفي الغالب تتمحور هذه الحاجات حول الرجال، في محاولة اجتذابهم أو الاحتفاظ بهم أو الاستحواذ على مشاعرهم واهتمامهم.
وفيما أنا أجتهد في ضبط تعابير وجهي وفي المحافظة على احترام طبيعة هذه الجلسات النسائية وما يدور فيها من حكايات تعبر عن ثقافة مجتمعية خاصة، دار في ذهني السؤال: بما أن كل شيء جائز في هذه الدنيا، وبما أن التوجه العلمي يرفض الإقرار القطعي والرفض القطعي لأي مسألة في الحياة، وعليه إذا كانت هناك أي نسبة لصحة حكايات السحر هذه، ترى لم لا يصيب السحر الساسة والمسؤولين الذين يحيلون حياة الشعوب إلى جحيم؟ لم لم تظهر قصة سحر واحدة يُربط فيها سياسي أو تحل من خلالها لعنة الجنون على مسؤول أو تُروض بطلاسمها قرارات نافذة؟ لماذا هن النساء غالباً الطالبات للسحر، والحب والغرام وامتلاك القلب والتحكم في المال هي مواضيع هذا السحر؟ يوجد سحر أسود مؤثر يمكنه أن يجعل فتاة تخرج صارخة عارية في الشارع بفعل خالتها التي سحرت لها طمعاً في زوجها الذي تريده لابنتها، أو سحر سفلي يجعل الرجل كارهاً لزوجته ومتنقلاً بين أحضان أخريات بفعل صديقة الزوجة الحاقدة على استقرار حياة الأخيرة، توجد قوى بهذا التأثير والسيطرة، ولم يفكر أي إنسان أن يستخدم هذا السحر ويسخره للتخلص ممن يحيلون حيوات الآلاف، بل الملايين، إلى جحيم؟
كم كانت لتكون فكرة السحر هذه رائعة لو كانت حقيقية، كل المطلوب عين غزال أحول، وذيل ذئب أجرب، وشعرة من رأس المعني بالأمر، ومبلغ من المال يُدفع في مقابل ورقة مطوية بطلاسمها، ويُقضى الأمر، لا حروب ولا نزاعات ولا اعتصامات ولا ثورات، لا قصف ولا مقابر جماعية ولا تعذيب ولا تجويع ولا حرمان ولا نزوح، يقضى الأمر بتميمة و”شوية بخور”. لو كان ذلك حقيقياً، لكنت أول طالبة للسحر ومتقصيته، ولكنت دفعت فيه الغالي والثمين، ولكنت وفرت له كل المطلوب مهما عفت عنه النفس واستقذرته الروح، ولكنت سافرت لتحقيقه لأقاصي الأرض مهما بعدت هذه الأقاصي واستعصت، ولكنت أطعت خطواته مهما جن جنون هذه الخطوات وتعذرت، ولكنت قمت بنفسي بدفنه، كما تقول السردية مراراً وتكراراً، في أرعب المقابر في عز ليلة دهماء ظلماء مهما بلغ رعب هذه المقابر ومهما بلغ ثقل وسواد الليلة.
وهل يعز شيء على الحرية والأمن والعدالة والسلام؟
يا سلام، ليت السحر هذا كان حقيقة. لو أنه كذلك، لماذا لم يصب سهمه بشار الأسد مثلاً؟ لماذا لم يسحر له أحد أفراد شعبه المنكل بهم فيسقطوه بلا ثمن ودون امتداد زمن أو، في تناول سحري مختلف، يحولونه إلى رجل عدالة وسلام؟ لماذا لم يقرب السحر من ناريندرا مودي بعد أن أعمل في الهند تقسيماً وبثاً للكراهية والعنصرية؟ لماذا لم يصب السحر هتلر أو ستالين أو طغاة السودان والعراق أو ملالي إيران أو الصرب الذين لم يَفُقهم أحد اغتصاباً لنساء أعدائهم، أو العثمانيين بعد مذبحة الأرمن، أو الميانمار بعد اضطهادهم البشع للروهينغا، أو بوتين الشرس النرجسية بعد هجومه المروع على أوكرانيا أو أمريكا، على الأقل أمريكا بمسؤوليها، بعد أن أعملت سلاحها في العالم أجمع، فلم تترك بقعة لم تحاول أن “تنشر الديموقراطية” فيها ولم تتركها خرابة جرداء؟ لماذا لم يسحر أحد بعد لترامب؟ أم تراه هو هذا بعد أن تم سحره والسيطرة على دماغه؟
ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: لو كان السحر حقيقياً، لماذا لم يطال تأثيره نتنياهو؟ لماذا هو بعده آمن، مسيطر، وثيق العلاقات بالحكومات الأوروبية، وفير السلاح القادم له منها، واثق الخطو يمشي وحشاً حقيراً بقنابله على أرض غزة المقدسة؟ لماذا لم يصبه سحر أو لعنة أو تعويذة شريرة؟ كل حكايات السحر هذه، وكل السحرة المخضرمين الذين يقبضون آلاف الآلاف هؤلاء، وكل التمائم والتعويذات والطلاسم والأعمال السفلية والعلوية تلك، كل هذا وهذه وتلك لم يستطيعوا أن يصيبوا نتنياهو بمستصغر أذى؟ سحركم فقط ناجع في جلب الحبيب وتفرقة رجل سخيف عن زوجة أسخف منه؟
تحكي الصديقات وأنا أتأمل في وجوههن المشدوهة، أعلم أن الخوف المستقر في القلوب بعيد تماماً عن هذه الحكايات “اللذيذة” التي يسردنها وكأنها مسكنات ألم ومهدئات روح. تسيطر هذه القصص على الشعوب عموماً، ولا تحاربها الحكومات كثيراً، ذلك أنها قصص تعين وتعاون، مهدئة ولا أقوى زينكس، مخدرة ولا أشد تيمازيبام، مهلوسة ولا أنقى أفيون، لذيذة ولا صينية بسبوسة كاملة بالجبنة والقشطة في ليلة شتاء باردة ترفع الكوليسترول وتقصف السكر وتترك ملتهمها على شفا حفرة من غيبوبة كاملة، فمن هذا الذي في عقله الكامل يريد القضاء على هكذا سلاح جمعي يحتل العقل ويفتك بالفكر ويُغيِّب المنطق ويحيل الأفراد آلات اجترار للذة الفكرة التي ستقضي عليهم في نهاية الأمر وكل ذلك بلا إراقة قطرة دم واحدة؟
ليتها حقيقية فكرة السحر تلك، آه لو كانت كذلك، لكنت دفعت روحي في طلاسمها.
لو كانت كذلك، من أول من ستوجهون له أول تعويذاتكم، شرط، الله يرضى عليكم، ألا يكون حبيباً بعيداً أو زوجاً خائناً أو جداً غنياً بخيلاً أو جميلة ممتنعة عن الزواج أو جارة حشرية شريرة؟
نقلا عن القدس العربي