من حقائب الأسفار

محمد سالم ولد أعمر

قذفت بنا الأسفار ذات مرة إلى بلدة لم نجد فيها محط رحال، إلا بصعوبة بالغة، وبعد ان كاد املنا يخيب في الحصول على شقة للكراء - مدة إقامتنا دون أن نتمكن من ذلك..فقد كان المتاح من ذلك على قلته محجوزا سلفا - ، انفرجت نافذة أمل عندما ألح علينا أحد المسؤولين بان نصحبه إلى بيته، فتصنعنا بعض الاعذار رجاء ان يزيد في إلحاحه، فأقسم ان لا يتركنا لغيره، فقبلنا عرضه الكريم.
وسرنا الى بيت فسيح لا يقيم فيه غير هذا المسؤول وابن له صغير، وقد " طحنا للصغير من السماء" حيث كان استحفي قد القى عليه جرانه منذ امد بعيد...فكان يقفز بيننا كالجفر الشادن.
وقد تقدم نقيب منا اخترناه ليتحدث للمضيف، ويعرض عليه بعض ما ندخره للضيافة، فزار عليه كالأسد الهصور، حتى خشينا عليه، ثم اعاد النقيب فلوسه الى جيبه، وقال لنا لقد نزلتم برجل كريم ذي أطوار متقلبة.
وبعد ان قارب الوقت الخامسة بشرتنا قعقعة الأواني بانه قد انضج صفيف شواء وقديرا غير معجل، بعد ان كدنا نتلو" آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا"
ثم جاء الغداء فمد الخوان والقى عليه صنوفا مختلفة ومنها صحن كبير كان اقرب الى الملح الممورر احترازا من "مارو لملح"
عند المساء لاحظ ضيفنا اننا اقمنا الشاي فدخل هاتفا هذي الورقة اخبارها ..في بيتي 30 كلغ من الورقة وما كان لكم ان تشتروا غيرها، فهذه إهانة لي" فطفقنا نعتذر  ونلطف الأجواء
ذات نقاش مشترك قاطعه أحد الزملاء ليبدي رأيه، فنهره متحسرا على اخلاق الموريتانيين الذين يتحدثون جميعا في وقت واحد..ثم وجه سؤاله الى الزميل: هل تعرف ان عدد الموريتانيين يقترب من 4 ملايين وانهم اختاروا رجلا واحدا ليتحدث نيابة عنهم..وهذا نحن عدد قليل ولا يمكن ان تتركوني اتحدث حتى اكمل كلامي.
فتغامزنا جميعا واستمعنا وكان على رؤوسنا الطير، ولم تكن الفكرة بذلك العمق والأهمية ولكننا على طريقة انظر الى القائل لا إلى قوله اشدنا بما قال فلاحظنا انفراجة سرور في اساريره.
كان حظي مساء يوم آخر تكسيحة لاذعة اكتسبت منها ادبا متاخرا..عندما سالته ملاطفا عن ظروف عمله في منطقة ريفية صعبة..فاطرق رأسه مليا ثم رفعه وقال لي: هل تعلم انني فلان بن فلان وقد تعودت منذ الصغر ان لا اسال عما لا يعنيني.
ابتلعت التكسيحة ببسمة ناشفة وقلت له صدقت..الا بي انا ازروكية.
فعاد لتفصيل ما أجمل وطفق يشرح لي مضار السؤال عما لا يعني وما لست مسؤولا عنه..ووعدته بعد تاثر مصطنع ان لا أسال بعدها عما لا يعنيني.
وتذكرت قصة رجل من اهل الجنوب قطع الطريق مرة في السنغال أمام سيارة مسرعة، فنزل سائقها إليه..وقطع به الطريق مرة اخرى وصفعه.
ولما قيل له لم لم ترد عليه قال: أمنادم طارشني على مصلحتي"
في يوم موال التقينا مجددا عند الحاكم، فساله احد الزملاء..كيف حالكم مع التعب فرد بعفوية: سوف استريح عندما تذهبون.
قبل ان يقطع دقيقة الصمت قائلا: هل تعرفون ماذا سأفعل..وتبرع لنا بالجواب قائلا: سوف انام يوما كاملا دون ان اسمع صوتا..
وقد وقعت هذه اللاذعة أخف علينا من سابقاتها ولم نجب..بعد ان عرفنا أنها سجية لا يملك عنها حولا.
وعند صباح اليوم الأخير معه...استيقظنا نشطين وحزمنا الأمتعة وغادرنا بعد ان ودعنا وداعا ناشفا...اما الصغير فقد كان أكثر حفاوة يودعنا بحرارة وعلى وجهه بسمة طفولية حانية ..فلعلنا كنا له انيسا من رفيقه الذي لا يبتسم..او كان قد استنفد رصيده من الابتسام قبل. وصولنا إليه.
وجدتني أتذكر ابيات جران العود عندما قال أحد الزملاء إنه فهم لماذا يعيش هذا الرجل عزبا دون زوجة، فالنساء كما قال مخلوق تقتله كلمة وتحييه أخرى ..وهو مصداق قول جران العود
 ولن يستهيم الخرد البيض كالدمى 
 هدان ولا هلباجة الليل مقرف
ولا جبل ترعية أحبن النسا ... أغم القفا ضخم الهراوة أغضف
حليف لوطبي علبة بقرية ... عظيم سواد الشخص والعود أجوف
ولكن رفيق بالصبى متبطرق ... خفيف دفيف سابغ الذيل أهيف
قريب بعيد ساقط متهافت ... بكل غيور ذي فتاة مكلف
فتى الحي والأضياف إن نزلوا به .
حذور الضحى تلعابة متغطرف
يرى الليل في حاجاتهن غنيمة  إذا نام عنهن الهدان المزيف
ثم سالت بنا أعناق هيلكسات وخرجنا من إسار المضيف الكريم الغريب الأطوار...والضيف كما يقال في قبضة المضيف.

ثلاثاء, 04/02/2025 - 12:34