السجالات والنقائض/ من الإرشيف

محمد سالم ولد أعمر

السجال الثقافي والفكري محمدة دون شك..حينما تنتج ثراء ثقافيا وأدبيا وطرافة وظرافة، ولبوس السجال الثقافي والعلمي غير لبوس السجال الأدبي، فهو نقائض تعمل فيهت العاطفة والزركشة اللفظية والخيال المجنح ما لا تعمل الفكرة الواضحة والنظر السديد ومنهج الاستدلال وبناء المقدمات واستخلاص النتائج والسبر والتقسيم ويتطلب النقاش العلمي عقلا تركيبيا، يوازن ويحقق ويبني الحجة بناء علميا مكينا وينسف الأخرى فيذرها قاعا صفصفا دون أن يذوي أغصان الوداد أو يحرق زرب الألفة.
وفي التاريخ الإسلامي والمحلي خزائن وكنوز متعددة أنتجتها السجالات العلمية والنقائض الأدبية، ولعل من أشهرها نقائض جرير والفرزدق وقد استأثرت بهذا الاسم واستبدت بها دون سواها، وفي هذه البلاد نقائض وسجالات أخرى أخذ بعضها طريق الحرب القبلية أو الطرقية الصوفية، وانتقل بعضها من السجال العلمي إلى النقائض الأدبية القارعة المؤذية.
وقد انتعشت سوق السجالات والردود في الأندلس فترة، وعرف عن بعض علمائها ولعهم بالردود والسجال، ومن أشهر أولئك العلامة ابن خروف النحوي اللغوي الكبير، وقد قيل إنه رد على 18 مؤلفا في عصره، حتى رد على الإمام أبي المعالي  الجويني والأول بأقصى المشرق وابن خروف وإن كان جواب آفاق فقد كان من أهل الغرب الإسلامي.
وقد رد ابن خروف على ابن مضاء القرطبي الذي كان يتمذهب في النحو على ظاهرية ابن حزم في الفقه، فلما وصله رد ابن خروف قال نحن لا نبالي بالكباش الناطحة أفتعارضنا أبناء الخرفان.
ولم يكن لدى ابن خروف حرج من التنكيت على اسم جده، بل كان يتظرف بذلك الاسم ومن ذلك أنه رفض دخول دار أحد وجهاء حلب الشامية لأن حارسا اسمه السيد (الذئب) فقال مازحا
مولاى مولاى أجـرنى فقد                 أصبت فى دارى الأسى والحتوف
وليس لى صبر على منزل               بوابه الســــيد ،وجـــدى خـــروف
ومن سجالات أهل الأندلس ذلك السجال الظريف العنيف الذي دار بين مالك بن المرحل صاحب نظم الفصيح والنحوي الكبير ابن أبي الربيع حول عبارة " كان ماذا"
وتطور النقاش بينهما إلى سباب وضراب بالقارعات من التنكيت والاستهزاء، وألف في ذلك ابن المرحل كتابه الرمي بالعصا والضرب بالحصى، نقض فيه حجة ابن أبي الربيع في تلحينه في قوله كان ماذا.
ولم يكن السجال معيارا للتوازي بين المستوى العلمين لأهل السجالات، ولكن الدافع في الغالب نصرة الحق أو تبيين دقائق العلم أو نيل الشهرة أو غير ذلك ولذلك قال أبو حيان " وألسنة الشعراء حداد وإلا فلا نسبة بين ابن أبي الربيع وابن المرحل فإن ابن أبي الربيع ملأ الدنيا نحوا" وفق ما نقل عبد الله كنون في النبوغ المغربي، ولم ينس كنون أن "يحط مرغاية" لمالك بن المرحل فقال "وابن امرحل من شيوخ أبي حيان
وقد قيل إن مالكا تطفل على ابن أبي الربيع في النحو، وتطفل ابن أبي الربيع على مالك في الشعر 
والظاهر أن ابن المرحل كان ممن "لا تبرك جمالهم في العافية"، فقد ساجل ابن المرحل ابن رشيق الأندلسي وجرت بينهم مهاترات شديدة، حتى كتب ابن رشيق قصيدة هجائية  مقذاعة رنانة، ويصف لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة الطريقة الكوميدية التي أوصل بها ابن رشيق قصيدته إلى خصمه مالك 
 " اتخذ لها كنانة خشبية كأوعية الكتب، وكتب عليها: رقاص معجل، إلى مالك بن المرحل. وعمد إلى كلب، وجعلها في عنقه، وأوجعه خبطا حتى لا يأوي إلى أحد، ولا يستقر، وطرده بالزقاق متكتما بذلك. وذهب الكلب وخلفه من الناس أمة، وقرىء مكتوب الكنانة، واحتمل إلى أبي الحكم، ونزعت من عنق الكلب، ودفعت إليه، فوقف منها على كل فاقرة كفت من طماحه، وغضت عن عنان مجاراته، وتحدث بها مدة، ولم يغب عنه أنها من حيل ابن رشيق" 
ومن السجالات الهادئة في هذه البلاد "االربابيات أو العكر" للعالمين الجليلين محمد عبد الله بن أحمذيه ومحدو حامد بن آلا
- مغنى الرباب مرب جون ربابه
أودى به من بعد بعد ربابه
ومطلع الأخرى 
ربع الرباب بواسط الألوى به 
آي تكون بعدما ألوى به
وفي القصيدتين قيمة السجال ومضامينه وهدوء العلم وجموح الخيال الشعري الأخاذ
وعلى كل حال فإن في السجال ثراء علميا وإثراء للمعرفة ودفعا للبحث و" التفاكر" وخير السجالات ما وصل إلى مبتغاه دون الرمي بالحصى والضرب بالعصا"

ثلاثاء, 11/02/2025 - 08:26