وتظل كلمات الشابّي حكما نهائيا لا مفر منه إلا إليه

دكتور محيي الدين عميمور

يُروى أن الساحة الفلسطينية عاشت في الثلاثينيات انتفاضة شعبية عظيمة، وفي حدود ما تعيه الذاكرة فإن قيادات الدول العربية آنذاك سارعت، لا إلى دعم الانتفاضة بل إلى إجهاضها بوعود قُدمت وآمال زُرِعت، وضاعت التضحيات في الهواء.
وعلى ضوء الأخبار التي تتحدث عن قمة عربية كنت قلت في الحديث الماضي إن ” القيادات العربية (الحالية) كان عليها أن تعقد القمة الشاملة قبل يوم 27 فبراير، لكن بدا وكأن المطلوب هو أن تكون هذه القمة “مباركة لأمرٍ واقعٍ يتم فرضه على الوطن العربي”.
“وهنا تتصاعد رائحة توجّه يزكم الأنوف وتتردد شكوك لا تُشرف القيادات العربية في مجموعها”.
ولم يفتني أن عنوان حديثي، والذي كان…. “هل هي مؤامرة صهيو- أمريكو- “عربية” ؟ !!” قد ضايق البعض، ولعله كان وراء بعض التعليقات التي تناولته، لكن …ماذا أفعل والحال هو الحال، ولا يمكن تغطية الشمس بغربال.
وسيكون من السذاجة أن لا أقف اليوم عند الحديث الذي يدور حول قمة استثنائية تعقدها مجموعة دولٍ في “المشرق العربي”، أدركت، بعد دمار غزة، أن هناك قمة استثنائية مطلوبة، في حين كان يجب أن تٌعقد هذه منذ شهور وشهور، على الأقل للتخفيف من عدد الضحايا ومن حجم الدمار، وألا تكون القمة مقصورة على دول بعينها، منها من يمارس التطبيع مع العدو الصهيوني، ومنها من بالغ في حماسه للتعاون مع “أبناء العمّ” على حساب الأشقاء ورابطة الدم، وكثيرون يمنحون أنفسهم مرتبة القيادة، وهم “شاهد شاف كل حاجة” لكنه تصرف بالتنكر لدور الشاهد الأمين.
وعبد الباري عطوان على حق وهو يتساءل عن سبب “تَغيِيب أهلنا في الاتحاد المغاربي عن القمم المشرقية”، خصوصا وأن إحدى دول المغرب العربي تقوم الآن بمهمة العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، مما يعطيها إمكانية مواصلة العمل الذي تقوم به بالتنسيق مع دول إفريقية، في مقدمتها جنوب إفريقيا، لدعم مطالب الأمة بالنسبة للقضية الفلسطينية.
وهنا نفهم سر الفتور الذي تُحس به شرائح وطنية تجاه قمة الـ27 فبراير، ولدرجة أن هناك من يأمل ألا تشارك الجزائر في هذه القمة إلا بمستوًى متدنٍّ من المسؤولين، حتى لا تجد نفسها في وضعية شاهد الزور أمام عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية، ستكون أسوأ مما عرفته الثلاثينيات، لإنها ستكون مجرد مرحلة تُستكمل بما قال عنه الدكتور إلياس عاقلة إن “خطة تدمير غزة وإبادة وتهجير سكانها، وكذلك تدمير المخيمات والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقتل وتهجير سكانها، عبارة عن جزءٌ صغير من خطة شاملة لتدمير كل الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط ، وإبادة وتهجير كل العرب من أجل أن يسيطر الغرب (نهائيا)على هذه المنطقة الأكثر إستراتيجيا في العالم كله”.
والإبادة والتهجير سيكون لها أكثر من أسلوب، ليس أقله تأثيرا إحداث نزيف للكفاءات العربية نحو الشمال، وهو ما نعاني اليوم من بعض تداعياته.
وأنا لا أخفي تشاؤمي مما أكاد أراه رؤي العين، وإن كنت لا أدعي معرفة الغيب ولا أعرف قراءة الفنجان، لكنني أقول، بيقين المواطن البسيط، إن الأمل في إجهاض العملية التآمرية الصهيو-أمريكية التي تستهدف المنطقة بأسرها يعتمد اليوم على قوتين، أولاها المقاومة الفلسطينية التي تجسد إرادة شعب غزة وتعبر عنها، رغم أنف من تعرفون من مرتزقة القضية الفلسطينية، والذين وصلت بهم وقاحة الاستلاب إلى حد إبداء الانزعاج من تعبير بعض المحررين من السجناء عن امتنانهم لمن دفعوا أغلى ثمن لتوهب الحرية لمن فقدوا كل أمل فيها.
والقوة الثانية هي القوات المسلحة المصرية، وهي الوحيدة القادرة على أن تعطي القيادة السياسية القدرة الفعلية على مواجهة ما تتعرض له من ضغوط يعلم الله مداها، خصوصا بعد أن تحالف الشمال والشرق على إغراق أرض الكنانة بالديون، وبعد أخطاء كانت لها نتائجها السلبية على الجبهة الداخلية.
هذا سيُبرز القوة الحقيقية الفاعلة، وهي قوة الجماهير التي تُترك لها حرية التعبير الحرّ الصادق، بعيدا عن “فولكلور” التظاهرات المفتعلة الذي برعت فيه بعض أجهزة السلطة، والتي تُجنّد الحشود كـ”كومبارس” مدفوع الأجر يذكر بالأفلام العربية القديمة.
وهنا، علينا أن نحذر من المحاولات التي يقوم بها البعض للتستر على مواقف الذلة والخنوع والدياثة، بالإساءة المباشرة وغير المباشرة لإرادة الأمة في الصمود والتصدّي، حتى ولو تستر وراء ما يُقال عنه إنه “ألقابٌ في غير موضعها”..
وهنا، أستأذن أستاذنا فؤاد البطانية في تكرار بعض ما قاله للقيادات العربية:
“انتم لستم ضعفاء بل استُضعِفتم لعمالتكم.
اجعلوا من قمتكم القادمة نقطة تحول تاريخية بأجندة كيف تحررون أنفسكم بمواجهة طغيان أمريكا وكابوس ابتزازها وتحقيق أمنكم الجماعي وطنياً وقوميا وتجريم الإنفراد بقطر عربي لتنهضوا (حكاية الثور الأبيض).
أنتم تمتلكون كل الوسائل لتحقيق هذا بإقامة الكتلة العربية الحرجة القادرة بطريقة الاعتماد على تكامليتكم  وبناء تحالفاتكم مع الغير على قاعدة تبادل المصالح الوازن وتكافؤ العلاقة.
فوسيلة الضغط الأمريكية هي فرض العقوبات، وهذا السلاح لا يجدي مع التكتلات كالمجموعة العربية عندما تكون ممأسسة ومترابطة باتفاقيات دفاع مشترك ملزمة (أعيد…مُلزِمة) أقلها اقتصادية وسياسية، بل إن لعبة الضغوطات والعقوبات هي لعبة العرب بما حباهم الله به، ومن العار والاستحمار أن تُستخدم ضدهم”.
ذلك بعض ما قاله الأستاذ فؤاد.
وأجد نفسي مضطرا لتكرار ما سبق أن قلته من أن من أمراضنا التي تضعف  المناعة الوطنية تغرْغُرُ البعض بمقولات يتم زرعها، هدفها أن نتناسى قاعدة بسيطة تتجسد في قول الإمام مالك: لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والمعنى العميق هو أن هناك قواعد حياتية ثابتة لا تتغير، وخصوصا في مجال الصراع مع الأعداء.
وحتى ولو تغيرت الصياغة، فإن المضمون يظلّ هُوَ هُوَ.
والقول بأن ” الزمن تغيّر والعالم تغير” صحيح، ولكنه يستعمل غالبا كمقولة حقٍّ لتسريب باطل، هدفه الترويج لمزاعم غبيّة، مضمونها أن”بعض العقول بقيت على حال الخمسينيات والستينيات”، وكأن علينا أن نقول بأن الشمس تشرق من الشمال ليمنحنا البعض وسام مسايرة الزمن، وأن علينا، ليرضى عنا البعض، أن نُؤمّن على مقولة “التكامل بين المال العربي والعبقرية اليهودية”.
لكن هناك ما لا يُغيره الزمن، اللهم إلا عند المثليين والمتحولين جنسيا، فالرجل يظل رجلا والمرأة تظل امرأة، ولعل هذا هو الأمر الوحيد الذي أتفق فيه مع بلطجي “اليانكي”.
وما قاله الإمام البشير الإبراهيمي في الثلاثينيات من أن “ما أُخذ اغتصابا لا يُسترد إلا غلابا”، هو نفس الهدف السامي الذي هتف به الرئيس جمال عبد الناصر في الستينيات بقوله إن “ما أُخِذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة”، ويظل هذا أبد الدهر قاعدة التعامل مع العدوّ، وهو على وجه التحديد ما سارت عليه المقاومة الفلسطينية، التي يحاول البعض الالتفاف حول نصرها لتحقيق أهداف الكيان الصهيوني ومن وراءه.
وهناك أمر ثابت عبر التاريخ، مضمونه أن الطابور الخامس لا يقل خطرا في أي صراع عن بقية الطوابير، وهي قاعدة خالدة يسجلها المثل الشعبي الجزائري الذي يُحذّرُ من “خاين الدار”، وأذكر ثانية بحكاية “الثور الأبيض”، التي تظل مرجعية واعية يؤدي تجاهلها إلى ما لا يُحمد عقباه، وقد عشنا بعض ذلك في الماضي القريب.
وبالتالي فإن الاتهام بأننا نعيش في الماضي ونكرر شعاراته ونطبق منطلقاته مردود على قائليه، لأن هناك ثوابت لا تتغير ما دامت هناك حياة، ولو لم يكن هناك حياء.
ورحم الله أبو القاسم الشابي  الذي قال:
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ    * يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ     * ويحتقرُ الميْتَ مهما كَـبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ* ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ.
وهذه هي إرادة شعوب المغرب العربي التي يتجاهلها البعض في المشرق العربي، كما تجاهل إرادة شعوب المشرق العربي نفسه، لأن ولاءه هو لإرادة الكيان الصهيوني، واعتماده هو على وفاء واشنطن، متناسيا نتائج “خليج الخنازير” ونهاية شاه إيران ومصير الأرصدة المالية لبعض “السياسيين” العراقيين في الولايات المتحدة.
فهل يتعظون؟.

نقلا عن رأي اليوم 

ثلاثاء, 18/02/2025 - 09:10