ولد ماديك يكتب عن اعدام المرتد في ميزان الشرع

حَسَبَ قراءتِي القرآن فإنّ كلمة ﴿الدِّينِ﴾ في تفصيلِ الكتاب المنزل في سِياقِ التشريع تعني مجموعَ التصوُّرِ والضوابطِ والسُّلوكِ ـ مُفردًا وفردًا مِن المُجتمع حوْله ـ يلْتَزِمُ بها الـمُتَدَيِّنُ الْتِزامًا يعني تعهُّدًا مِنهُ بعدم الخروج عليها وإقرارا منه باستحقاقِه أن يُدانَ أي يُحاسَبَ بحَسَب طاعتِه وعِصْيانِه، وأطْلَقْتُ هذا التفسير على ﴿دينِ اللهِ﴾ المنزَّلِ وعلى دِينِ البشر الاجتهاديّ على السواء، ولعلَّ من أكبَرِ الفروقِ بينَهُما غيابَ المكافأةِ وتَعْجِيلُ عقوبةِ المجتمعِ أو الحاكمِ علَى المُخالَفَة في الدُّنْيا عقوبَةً قد تُصيبُ وكثيرًا ما تُخْطِئُ، أما في ﴿دينِ اللهِ﴾ فالدنيا كلُّها دارُ عمَلٍ وابتلاءٍ أتاحَها الله الخالقُ للناس لِيَعبُدوه بالمسارعة إلى الطاعة كلّما وقع عليهم الخطابُ الموقوت خشْيَةً بالغيبِ قبلَ أن يُدانَ المكلَّفون في ﴿يومِ الدِّينِ﴾ يوم الفصْلِ والجزاءِ بالحُسْنَى للذين أحسَنوا وبالسوأى للذين أساءوا، وإنما شَرَع اللهُ عقابا في الدنيا على مَن يَعتدون على أمْنِ المجتَمَع وسِلْمِه وطمأنينته كما في حَدِّ الحِرابة وحَدِّ القصاص لدرْءِ الاعتداء على الأنفسِ والأموال، وحدِّ السرقة لدرْءِ الاعتداء على المالِ، وشُرِعَ جَلْدُ الزاني لصَوْنِ الكرامة والأنساب وشُرِعَ تعزيرُ السكران لحفظ العقل احترازا من طيش السكران وخفَّة موازينه وتقديره أن يُصيبَ بها آمِنًا مُطمئنًّا بِجُرْحٍ أو قَتْلٍ أو يُفكِّكَ بها رابطة اجتماعيَّة كانت موصولة قبلَ إزْهاقِ السكرانِ عَقْلَه بالسُّكْرِ.
ولقد تضمن تفصيلُ الكتابِ المنزَّل الخطابَ باحترام كل دِينٍ وبصَوْنِ مقدَّسات كل مِلَّة وأمَّةٍ وكذلك دلالةُ قوله تعالى ﴿ولا تَسُبُّوا الذين يدعون مِن دون الله فيَسُبُّوا اللهَ عدْوًا بغير علم كذلك زيَّنا لكلِّ أمَّةٍ عملَهم ثم إلى ربِّهم مرجِعهم فيُنبِّئُهم بما كانوا يعملون﴾ [الأنعام 108] أيْ هو صريحُ النهيِ عن سبِّ مقدَّساتِ المخالِفين، وظهرَ لُزُومُ احترام تلك المقدَّسات بوصْفِها بِصِلَة العاقل ﴿الذين﴾ وظهر عزْلُ المسلمين فرادَى ومُجتمعًا عن عقوبة غير المسلمين أن لم يُسلموا بقرينة ﴿ثم إلى ربِّهم مرجِعهم فيُنبِّئُهم بما كانوا يعملون﴾ [الأنعام 108] لتقرير كليّةِ أنْ ليسَ حِسابُ الناسِ في الاعتقاد والتصوُّرِ على بعضِ الناسِ ولا على المجتمع وإنما حسابُ الناسِ على الله يوم القيامة، ومَن زعم أن اللهَ كلَّفَ فردا أو سُلطانا أو مُجتمعا بمعاقبة المخالِفِ في الدِّينِ فقد ادَّعَى ما ليسَ للرسولِ النبيّ الأمِّيِّ صلى الله عليه وعلى ءالِه وسلَّم كما في قوله ﴿وإن مَّا نُرِيَنَّك بعض الذي نَعِدُهم أو نتوفَّيَنَّك فإنما عليك البلاغُ وعليْنا الحسابُ﴾ [الرعد 40].
ولم يُشْرَعْ لِحفظ الدّينِ غيرُ تربية الإيمان بالغيبِ بمراقبة الله وهو ﴿الحَيُّ القَيُّوم لا تأخذُه سِنَةٌ ولا نَومٌ﴾ [البقرة 255] وإنما يَسْقِي شجَرَةَ النفاق الخبيثَةِ مَن زَعم تشريعَ الحدود على معصيّة المكلَّفِ فيما بينه وبين اللهِ الخالق، ولا عادةَ أنْخَرُ للمجتمع المسلم مِن صلاة الخائف من الحدِّ، وإسلام الخائف من حَدِّ الردَّة، وصيام الخائف من إنكارِ المجتمع، بل ﴿لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشْدُ من الغيِّ﴾ [البقرة 256].
دلالة ﴿لا إكراهَ في الدِّينِ﴾
لقد تَضمَّنَ تفصيل الكتاب المنزل أنّ اللهَ لم يشَأْ أن يُكْرِهَ الإنسَ والجِنَّ على الإيمان والطاعة، وأن لو شاءَ ذلك لنزَّل عليهم آية خارقة من السماء يُجبِرُهم على الإسلام واتِّباع الرّسُل وأن يهتدوا أجمعون بل أكرَمَهم بالاختيار بين الإيمان والكفر وبين الطاعة والعصيان اختيارا صريحا هو مُقتَضَى قوله تعالى ﴿ولو شاء ربُّك لآمَن مَن في الأرض كلُّهم جميعا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ [يونس 99].
ولسوْف يتمنّى المشركون يوم الحساب أن لو كان وقع في الدنيا جَبْرُهم على الإيمان والطاعة، احتجاجا مِنهم بالقَدَرِ ـ والعياذُ بالله ـ يزعمون أنهم إنما عَصَوُا اللهَ في الدنيا بالأسباب التي متّعهم بها كالسمع والبصر والقدرة على مخالفة الرسُل والنبيين، أي هو تَمَنِّي أن لو كانُوا غيْرَ مُمَتَّعِينَ بالاختيارِ ولا بالقُدْرَة على المعصيَة، وكذلك دلالة قوله ﴿وقالوا لو شاء الرحمانُ ما عبدْناهم ما لهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يخرُصون﴾ [الزخرف 20].
ولقد أثبتَ اللهُ في تفصيلِ الكتاب المنزَّل للإنسان المُكلَّفِ مشيئةً يختار بها بين النَّجْديْنِ طريق الإيمان وطريق الكفر، وبين الطاعة والعصيان، وأن يستحسِنَ ويستقبَح، وأن يَتَلذّذَ ويتألَّمَ، وأن يجوعَ ويشبَعَ، وأن يرْتوِيَ ويَعْطَشَ، وأن يَلْبَسَ ويَعْرَى، فهَلَّا وهو يزْعُمَ تَجْرِيدَهُ مِن نِعمةِ اختيار الإيمان والرُّشْدِ والصلاحِ وَحُبِّ الْخَيْرِ للناسِ تخَلَّى عن الأكْلِ وعن الشرْبِ وعن اللباس وعن اللّذّاتِ بزعم جَبْرِه وقَهْرِه على الجوع والعطش والعُرْيِ والألَم.
إنّ قوله ﴿وقلِ الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاءَ فليكفرْ﴾ [الكهف 29]، ليعني أن اللهَ خالقَ الإنسان أنعم عليه بكرامة الاختيارِ والمشيئة بقرينة رَغْبَة أَبَويْنَا ءادَمَ وحوَّاءَ عن الإمساكِ عن الْأكلِ من الشجرة، وبقرينة إطلاقِها في تفصيل الحياة العامّة كإطلاقها في الاعتقاد والتصوُّرِ سواءٌ بسواء كما في قوله ﴿أصلاتُك تأمرُك أن نترُك ما يفعل ءاباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء﴾ [هود87].
وإن من تأصيلي التفسيرَ أنّ في النّهيِ قرينَةً على كرامة اختيار المُخاطب المُكلَّفِ ويعني أن المشيئة في الطاعة وفي العصان، وفي العمل والتَّرْك، وأنّ التَّرْكَ عَمَلٌ يثابُ ويعاقَب عليه، كالذي تركَ إنقاذَ الغريق وهو يَقْدِرُ على إنقاذه، أو تَرَك مريضا أو جريحا وهو يقدِر على مساعدته، أو ترك جائعا وهو يملك إطعامه، أو ترك فِتْنَةً تنتشرُ وتتغَوَّلُ وهو يقدِر على المساعدة في إخمادِها ووأدِهَا، أو رأى بِئْرًا غيرَ مُسَوَّمَةٍ بحائط على ظاهرِها قد تبتلع السّيَّارةَ رِجالا ورُكْبانًا في ظلمة الليل فترَك بناءَ سدٍ يحجزُ غير المبصِرِ من السقوط في قعرِها، أو تَرَك إطفاءَ حريقٍ قد يقْتُلُ الناسَ أو يُتْلِفُ الأموال، ولا فَرْقَ بينَ هذا التَّرْكِ وبين ترْكِ الطاعة كالذي يتْرُك فِعْلَ الخيْرَات ويترُك برَّ أبوَيْهِ ويترك الزَّكاة بالطهارة والصلاة والذِّكْرِ والإنفاق. 
وأما القَيْدُ كما في قوله ﴿وما يذكرون إلا أن يشاء اللهُ﴾ [المدثر 56]، فيعني افتقار الإنسان المكلَّفِ إلى أن يتوب اللهُ عليه لِيتوب وكما في قوله تعالى ﴿ونُقلِّبُ أفْئِدَتهم وأبصارَهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرُهم في طغيانِهم يعمهون﴾ [الأنعام 110].
ولا يعني تكريمُ المُكَلَّفِ بالاختيارِ أنَّ اللهَ لا يعلمُ ما توسوِسُ به أنفسُهم وما يُخفونَ في صدورُهم ولا أنَّه سبحانه وتعالى عُلُوًّا كبيرا لا يعلم أعمال العباد قبل وقوعها بل سبحانه وتعالى هو علام الغيوب، وبقرينة قولِه تعالى ﴿ولو رُدُّوا لعادُوا لِما نُهُوا عنه وإنَّهم لكاذِبون﴾ [الأنعام 28].
إن قوله ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنتُ على بيِّنَةٍ مِن ربِّي وءاتاني رحمةً مِن عنده فعَميِتْ عليكم أنُلْزِمُكُمُوها وأنتم لها كارهون﴾ [هود 28]، لمن المثاني مع قوله تعالى ﴿لا إكراهَ في الدِّينِ﴾ [البقرة 256] ويعني تقريرَ إطلاقِ اختيارِ المُكَلَّفين في تصوراتهم وفي سُلوكِهم وأنْ لا جَبْرَ عليهم فيه، وتنزل نهْيُ النبيِّ الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم أن يبخَعَ نفسَه وأن يُذْهِبَها حَسرَة على إعراضِ قومِه عن الإسلام وتنزّلَ تذكيرُه بوظيفتِه التي أرْسِلَ بها وهي التذكرة والبلاغ من غيرِ سيطرةٍ منه على الناسِ وأنه ليس عليهم بوكيلٍ ولم تتضمَّن رسالتُه إلى الناسِ أن يحفظهم من الكفر والعصيان.
ولو كان الإسلام دِينَ إكراهٍ لَمَا صالَحَ النبيّ الأمّيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشًا يوم الحديبيّة على "أنّ لقريشٍ الاحتفاظَ بمَن ارتَدَّ من المسلمين واختار حِلْفَ العدُوِّ المحارِبِ ولا يَرُدُّونه إلى المسلمين".
قلتُ: وأشهد بأنّ النبيّ الأمِّيَّ صلى الله عليه وسلم قد تمثّل بصُلح الحديبيّة التكليف المنزل من عند الله بقتالِ الذين يُكرِهون الناسَ على الْتِزامِ دِينٍ خاصٍّ بهم يحجُبون عنهم كرامة الاختيار التي تنزّل بها القرآن العظيم، ويعني أنّ تكليفَ المسلمين بالقتال إنما هو لدَفْعِ الإكراهِ عن الناسِ وليَكون الدِّين كلُّه لله ومنه تقريرُ كلية ﴿لا إِكراهَ في الدِّين﴾، وسارَع النبيّ الأمِّيُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى تمَثُّلِه في صلح الحديبيّة بتقرِيرِه الحريّةَ الفكريةَ والدينيّةَ للرّاغبين من المسلمين عن الإسلام وعن صُحبةِ رسول الله والذين معه رغبةَ غيرِ معتزِلٍ المعركةَ بل رغبةُ المعلِنِ انضمامَه إلى حلفِ العدُوِّ المُحارِبِ.
ولو كان الإسلام دينَ إكراهٍ لَمَا تنزّلَ في القرآن التحذيرُ من المَسَاسِ بطائفةٍ من المنافقين اعتزلوا قتال المسلمين وكرهوا قتالَ قومِهم كما في قوله تعالى ﴿الذين يَصِلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاقٌ أو جاءوكم حَصِرَتْ صدورُهم أن يُقاتِلوكم أو يُقاتِلوا قوْمَهم ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلَقاتَلوكم فإن اعتزلوكم فلم يُقاتِلوكم وأَلْقَوْا إليكم السّلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا﴾ [النساء 90] ويعني تنزلَ القرآن بتحريم دمائهم وأموالِهم ـ وهم الذين أعلنوا الإسلام وتخلَّفوا عن نُصْرَة النبيِّ الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم ـ وشكر اللهُ لهم الكفَّ عن مقاتلة قومِهم.
ولوكان الإسلام دين إكراه على الدِّين لما أعطى الزوجَة المسلمَة حقَ الرغبَة عن أسرَتِها وعن دِينِها لتلحَقَ بالكفَّار كما في صريح قوله تعالى ﴿وإن فاتَكم من أزواجِكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزوجهم مثلَ ما أنفقوا﴾ [الممتحنة 11] ويعني عدمَ التكليفِ بقَهْرِها وجَبْرِها على دِينٍ رَغِبتْ عنه وعلى زَوْجٍ كرِهَتْه.
ولا تتَّفقُ هذه الكليَّاتُ مع الرأي بقتْلِ المرتَدِّ عن دينه بسبب ارتدادِه عن الإسلام، وبيّنتُه مفصَّلا في الفصل الخامس: فقهُ مرحلة التمكين من الكلية الخامسة: فقهُ المرحلة واليقظة والواقع.
إن قوله ﴿وقد نزَّلَ عليكم في الكتابِ أن إذا سَمِعتمْ ءاياتِ اللهِ يُكْفَرُ بها ويُسْتَهْزَأُ بها فلا تقعُدُوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذًا مِثْلُهم إن اللهَ جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا﴾ [النساء 140]، ليعني خطابا بالإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله وبالإعراض عنهم، لا يتّفِق مع سلوك غُلاة التكفير والتفسيق بقتل مَن ليسَ منهم بدعوى كفرِه أو فسقِه، أما الكفر بالله وآياته فليس مانِعا شرعيّا من المجالسة بقرينة أن الرسُل والنبيين جالَسوهم وبلَّغوهم الرسالة وجالسَ النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة وسمع منه وتَلَا عليه من سورة فُصِّلت، بل يعني التذكيرُ بعقابِ المنافقين والكافرين في جهنم أن الدنيا ليست دارَ الجزاء على الاعتقاد. 
بقلم/ الحسن محمد ماديك 
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة
من كتابي "تأصيل فقهي الحوار والمرحلة" باختصار

جمعة, 16/11/2018 - 23:10