يحتاج السودان وسوريا ولبنان وغزة ومدناً فلسطينيةً إلى إعمارٍ كثيفٍ بعد الخسفِ العسكري الذي اجتاحهم “وطنياً” و “إسرائيلياً”. إنتقِلْ بين الدراسات والتقارير التي تصِفُ حجم الدمار البنيوي فتعرف أن إعادة الإعمار هي عمليةٌ مُكْلِفَةٌ جداً ونظراً لفداحة الدمار الزلزالي و التهتكات السكانية المعيشية الناجمة من الدمار والمحيطات السياسية المتلاطمة في ما تريد وغياب ضمانات لوقف الاعتداءات، فهي أيضاً عمليةٌ شائكةٌ مُعقدةٌ محفوفةٌ بالمخاطر. لن أُفصِلَّ الأرقام التي توردها جهاتٌ متعددةٌ دوليةٌ لإعادة الإعمار لشعوري أنها نتاجَ نوعٍ من المُزايداتِ أو الضرب بالنرد سواء كانت النوايا سليمةً أم لا وسواء أرادت جلب الانتباه للمآسي أم جلب التمويل لذاتها. لا توجد فعلاً أرقامٌ مُحكمةٌ ولن تكون إلا بالكشف عن الدمار بالوسائل التنظيمية لتخطيط المدن و الموائل السكانية وأما ما يُشاع من أرقام فهي تقديراتٌ تتغير بين يومٍ و آخر ما دامت الاعتداءات لم تتوقف. الركام الذي يغطي المدن والمخيمات والذي يأتي على شكل طبقاتٍ لا يتكون فقط من مواد بناء متحطمة بل معجوناً بالكم الهائل من الآمال والأحلام والذكريات التي لا يمكن تعويضها او تقديرها بمال و متشابكاً مع الاحتياجات الأساسية للناس للعيش، ولا تقتصر تكلفتَهُ على مواد البناء الأوليَّة و الثانوية و التجميلية. كل بيوت غزة ولبنان كانت متكاملةً من احتياجات وعندما قُصِفَتْ ذهبت معها هذه الأدوات الأساسية والتكميلية اللازمة لكل أسرة فهل حَسَبَ المقدِّرون هذه الكلفة المادية للأسرة المنكوبة؟ من يقل أن متطلبات غزة لإعادة الإعمار تفوق 50 بليون دولار و أكثر من عقدٍ من الزمان فهو كمن يضربُ في الودع لأن الإعمار ليس مجرد إنشاء بناءٍ في خلاءٍ بل إعادة بناء إنسانٍ كانت كل حياته أمامه ثم انهارت.
تحكم إعادة الإعمار ببلادنا المنكوبة ظروفٌ عمليةٌ وشروطٌ قاسيةٌ و متطلباتٌ لا تتسم غالباً بالنوايا الحسنة. هل يعقل أن يكون هناك إعادةَ إعمارٍ جوهرية دون استقرارٍ بكل معانيه؟ ثم ما هو مفهوم الاستقرار عند الأطراف المهتمة بإعادة الإعمار؟ لنأخذ مثلاً السودان الذي قد يسيطر جيشه على العاصمة قريباً و سيُبادرُ من فوره لإعادة الحياة لها فهل سيقف غريمه متفرجاً أم أنه سيعرقل إعادة الإعمار؟ حتماً سيفعل ما يُبقي العملية رهينةً لمفاوضاتٍ ترعى مصلحة الفرقاء. إذاً لا استقرار داخلياً إلا بسيطرةٍ محكمةٍ من جهةٍ واحدةٍ فقط هي المنتصرة على الغريم نصراً مبيناً أو متفقةً معه على الإعمار بشروط. وهذا من دون ذكر رد الفعل الخارجي الذي قد يقف مع الاستقرار أو يسعى لتقويضه فتسقط الجهود الداخلية أمام هذه التدخلات. أَسقِط هذا المثل في غزة فنرى الفرقاء المتباينين ما بين “إسرائيليٍّ” بشعٍ في قساوتهِ لا يهتم بقانون أو إنسانية و مقاومٍ شريفٍ حوصر وأهله عقوداً و لفيف الأطراف المتعددة الذين يشكلون بلا شك منفردين و مجتمعين سبباً مقنعاً لعدم الاستقرار. فكيف تكون إعادة الإعمار و “الإسرائيلي” البشع بلسان رئيس أركان جيشهِ الجديد ذو الأصول اليمنية والسورية يقول أن عام 2025 هو عام حرب غزة (و إيران)؟ لا يختلف الوصف في لبنان. “إسرائيل” لا تريد إعماراً يفيدُ جمهور مقاومة في الجنوب ولا إعماراً ببيروت يحتضن قيادةً سياسية للمقاومة. الأمر سيان في سوريا واليمن اللتان تشكوان من التفسخ الداخلي و التهديد الخارجي وإن من فتراتِ استقرارٍ تسمح بالإعمار فهي متصلةٌ بمحاذير متعددة تجعل من أي إعمارٍ في أي قطاع مسألةً مؤقتةً وليست بناءً يدوم.
ثم يأتي السؤال عن المال اللازم للإعمار وهو كما نقرأ قد يصل إلى ما يقارب 570 بليون دولار لهذه الدول مجتمعةً! هي كما قلتُ تقديراتٌ وإن افترضنا أنها قريبةٌ من الواقع فمن أين سيأتي هذا التمويل الهائل؟ في الحالات الطبيعية يُمَوَّل الإعمار داخلياً من الحكومة و القطاع الخاص بما في ذلك القروض المصرفية والمدخرات الشخصية للمتضررين. وخارجياً من المانحين قروضاً وهباتً والمستثمرين من القطاع الخاص عابر الأقاليم والقارات و من القطاع الدولي من منظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية التي تعتمد في تمويلها على تبرعاتٍ غير مشروطةٍ ومشروطةٍ من مجتمع المانحين. لكن حكومات بلادنا المنكوبة لا تملك المال و قطاعها المصرفي مترنح ٌ لن يستثمر أموالاً نادرةً بمشاريع يراها خطرةً ومدخرات الأفراد لا تكفي وقد نضبت، ولن تتقدم الدول المانحة بمبادراتٍ للإعمار لا تتفق و شروطها المسبقة متعددة الوجهات ليس أقلها الاستقرار ويتبعها إملاءاتٌ سياسية و مجتمعية و غيرها. أما الاعتماد على الأمم المتحدة فهو خيارٌ ضعيفٌ لأن الأمم المتحدة تستمد تمويلها من المانحين وهم لن يسمحوا لها بإعادةِ إعمارِ جدارٍ في مدرسةٍ دون الالتزام بالشروط التي يرونها تحفظ مالهم و تلتقي وسياساتهم. وبهذا يكون للمانح الخارجي اختيار التمويل المباشر للدولة و تمويل منظماتٍ للعمل في الدولة أو المنطقة المنكوبة، بشروطٍ إن أراد و من غير شروطٍ إن ارتأى ذلك، و في الحالة الأخيرة لا تكون هذه إعادة إعمار بل معوناتٍ إنسانيةٍ. عندما في سوريا أرادت الأمم المتحدة تصليح مبانٍ مدرسية و عياداتٍ بمناطق الحكومة السورية عارض ذلك أحد المانحين الكبار قائلاً أن لا إعمار بأموالٍ لها صفة المساعدات الإنسانية دون حل سياسي وفي ذات الوقت كانت المعونات الإعمارية تتدفق لسوريا الأُخرى التي لم يكن للحكومةِ بها وجود، و كان هذا موقفاً سياسياً فُرِضَ على الأمم المتحدة. اليوم في غزة تُمنع الأنروا من العمل وهي الجهة التي أنشأت وأدارت مدارس ومراكز خدمات مجتمعية و عيادات تم تدمير معظمها تدميراً متعمداً. ومن يمنع الأنروا هم كبار المانحين الذين لا يريدونها عاملةً دون السيطرة “الإسرائيلية” عليها.
قد تتفاءل بوجودِ فئةٍ من الاستثمار التنموي الإعماري تقوم به صناديق و مصارف تنموية ذات ملكيةٍ منفردةٍ ومجتمعةٍ بين الدول العربية، والبنك الدولي للتعمير والتنمية، تعني بمشاريع إعمارٍ كبيرة مثل شق الطرق و صيانة المرافق كالمطارات والموانئ والسدود من خلال قروض تنموية طويلة الأجل بفوائد منخفضة. لكن إعمار منشأتٍ بعينها لا يُقارنُ بإعادة إعمار مدنٍ و قُرىً سُوِّيَت بالتراب و تدمرت بناها الأساسية من ماء وصرف صحي وكهرباء وتشرد أهلها وفقدوا ما يملكون. غزة والخرطوم وحمص وحلب وإدلب ودير الزور ومدن وقُرى الجنوب اللبناني وجنين وطولكرم شهدت تدميراً ممنهجاً يحتاج تخطيط الإعمار للإنسان بكل احتياجاته. الدول المنكوبة لا تملك المال والمانح الذي يملكه لن يتقدم دون ضمانٍ سياسيٍّ و مصرفيٍّ أو رهنٍ طويل المدى ليحفظ حقوقه. لنفترض أن هولندا توافق على إعادة إعمار “س” من القطاعات ببلدٍ ما فهي قد تقول أن شرطها هو الحصول على عوائد لنصفِ قرنٍ قادم من الثروة الفلانية في ذلك البلد. وبالمناسبة فإن هولندا تنوي تخفيض مساعداتها الدولية على نطاقٍ واسعٍ. أو لنقل الولايات المتحدة التي يريد رئيسها تهجير سكان غزة و بنائها لتكون منتجعاً. له هي صفقة عقار وليس إعادة إعمار والإنسان الفلسطيني هامشي. وهو قد شَلَّ مؤسسة المعونة الأمريكية وينوي مسحها من الوجود وقد بدأ أثرَ غيابها يضرب بقوةٍ في كل البلاد النامية.
باختصارٍ، من دون استقرار لن يأتي المال. والمال كذلك لا يأتي بالاستقرار. المال الذي بنى في غزة الميناء والمطار والمستشفى دمرته “إسرائيل” بطرفة عينٍ وكان مالَ مانحين لم يجرؤ واحدٌ منهم طلب التعويض من الصهيونية. مؤتمرات التمويل الدولية لسوريا والسودان واليمن ولبنان لم تأت بالاستقرار لأنه كان مالاً مشروطاً ومربوطاً بتغييراتٍ سياسيةٍ تمس مكونات دول وهي تغييراتٌ لم تتم لأن الخلل البنيوي في أنظمة الحكم أقوى من المال المشروط.
لذلك فإن إعادة الإعمار، ضمن النوايا الحسنة، ليس لها مكانٌ في عالمٍ متضارب النوايا والمصالح. لا توجد بصريحِ العبارة نوايا حسنة في مناطق النزاع الدموية. إنَّ مُعضلة الإعمار هي نفسها معضلة الاستقرار، كليهما في بلداننا فاقد الإرادة الوطنية. لا يوجد استقرار بوجود الاستعمار وهو ليس فقط الاستعمار الصهيوني بل كل “لاعبٍ” محليٍّ و إقليميٍّ و دوليٍّ يرى أن في مصلحته هيكلةَ اللا استقرار خارج حدوده، وهو استعمارٌ من نوعٍ جديد، يعيث في الأرض الفساد. إن من يدعم التشظي الداخلي في السودان وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين أيَّاً كان ولو عربياً هو مستعمرٌ يبني استقراره على فوضى دموية يفرضها على الآخرين وإن عَمَّرَ فلمصلحتهِ أولاً وأخيراً.
لقد أصبحت عبارة إعادة الإعمار مُنتجاً إعلانياً هي مزيج الحذاقة والفهلوة في طرح خططٍ و آمالٍ عريضةٍ لا تلتقي وواقعٍ مريرٍ ببلداننا. واقعٌ تقوده سطوة المستعمر مع ضعفِ المقاومة المؤسسية له من جانب الحكومات و شهية أبناء البلاد للسيادة ولو على عرشٍ من الأشلاء و إغماض عيون عن الاحتياج الأساسي وهو حرية المواطن من الاستعباد المستعمر. وتفوقها وزناً دَوَّامةَ الحاكم والمحكوم و صراع الأكثرية والأقلية عرقاً ولوناً وطائفةً ولُغَةً بل ولهجةً وعائلةً، وما مِنْ رُشْدٍ يسمو بالبلاد والعباد مقابلها. إن الواجب ليس في إعادة إعمار البناء وحسب بل يأتي قبله بالأولوية إعادة إعمار مفهوم الوطن والمواطنة و تمييز ومحاربة الاستعمار. عندما نتحرر من قيودِ الاستعمار “الإسرائيلي” والموالي له وعيوب كياناتنا المؤسسة على الاستثناء سنستطيع الإعمار وإعادته.
ماذا نفعل الآن في غياب الاستقرار والمال؟ أنها كما يقولون “الدائرة الشرسة” عندما لا تعرف كيف تبدأ وبماذا؟ هذا يدعو الحلول المؤقتة لإعمارٍ مؤقتٍ في حجمهِ و طول عمره ينتظر إعادة الهدم في مذابح جديدة، طالما هناك استعمار و استعباد.
الأردن
نقلا عن رأي اليوم