يجري الترويج في الآونة الأخيرة لفكرة أن العالم يتجه نحو سياسة الصّفقات والبراغماتية بعيدا عن الحسابات الأيديولوجية أو المبدئية أو العقائدية! كل المسائل قابلة للتفاوض وكل الحروب قابلة للتوقف، وكل المشكلات قابلة للحل، وكل القضايا إن كانت دولية أو وطنية ينبغي أن تخضع لهذا المنطق إلا قضية واحدة يبدو أنها استثنيت من هذا الاتجاه: فلسطين وغزة، لا صفقات ولا مفاوضات ولا براغماتية.. هذه القضية ينبغي أن تُصَفَّى بطريقة تامة وفي مصلحة طرف واحد هو الكيان الصهيوني والغرب المتحالف معه، رغم ما يبدو هنا وهناك من مواقف موضوعية لهذه الدولة أو تلك في نطاق محاولة البروز في شكل “ديمقراطي” أو متمسك بحقوق الإنسان.
في ظل ما نراه اليوم في غزة وفي الضفة الغربية من إبادة واضحة للشعب الفلسطيني وقتل منهجي وإخراج من دائرة الإنسانية، وفي ظل قَبول ذلك بطريقة واضحة أو من خلال التعامل ببرودة مع تطورات الأحداث من دون اكتراث بالمأساة القائمة اليوم في فلسطين المحتلة، يبدو أن هناك بالفعل شبه توافق غربي وعربي على تصفية القضية الفلسطينية وإعلان الولاء التام للكيان الصهيوني. لم يشذّ عن هذه القاعدة إلا الموقف اليمني الذي أعلن العودة إلى مواجهة الكيان الصهيوني في البحر الأحمر إذا لم تُفتَح المعابر ولم يُغَث سكان غزة!
وإلا كيف نفسّر سرعة التعامل مع انفلات الأوضاع في سوريا من خلال العمل على اتفاق المتضادين العلماني المتحالف مع الأمريكي والإسلامي المحارب لها؟ في ظرف وجيز تُصبح “قوات سوريا الديمقراطية” و”هيئة تحرير الشام” متوافقتين؟ كيف نُفسِّر علاقة ذلك بإعلان “حزب العمال الكردستاني” إلقاء السلاح وهو الذي يعرف علاقة عدائية معقدة مع تركيا طيلة عقود من الزمن؟ كيف نفسّر تسارع الأحداث لوضع حد للحرب الروسية الأوكرانية بأيّ طريقة وفي أقرب وقت؟ كيف نُفسِّر هذا الاتجاه العام نحو الحلول التفاوضية والبراغماتية وغير العسكرية في كافة أنحاء العالم إلا في فلسطين، حيث يحدث العكس: لا حديث سوى عن الجحيم والإبادة والتصفية والقتل جوعا وعطشا وتحطيم البنية التحتية وقطع الكهرباء والماء والتهجير والنفي والتعذيب في السجون ورفض مبادلة الأسرى والحصار بكل أنواعه إلى حد القتل الجماعي المُتعَمَّد؟
هل باتت المقاومة في فلسطين هي الوحيدة في العالم التي يَعتقد الغرب وأمريكا وحلفاؤهما أنها تحمل معها تهديدا لِوجوده؟ أإلى هذه الدرجة تُخشَى مقاومة من بضعة آلاف لا تمتلك أكثر من سلاح الإرادة وقوة الموقف والتمسُّك بالحق؟ هل أصبحت “حماس” و”الجهاد” و”الجبهة الشعبية” وباقي الفصائل هي الشكل الأخير من أشكال المقاومة التي ينبغي القضاء عليها ليعتبر الغرب أنه مازال قادرا على السيطرة والانتصار في معاركه ضد الشعوب المستضعَفة والمقهورة لأجل إبقائها كذلك لأطول فترة من الزمن؟ وأيّ إرادة وأي قوة وأي عقيدة هذه التي مازال يتمسك بها الفلسطينيون لِتُشَكِّل كل هذا الهاجس لِقِوى كبرى مثل الولايات المتحدة وقوى مُتجبِّرة ظالمة طاغية مثل الكيان الصهيوني، ولِدول قائمة بترسانتها العسكرية والنووية ومنتشرة عبر العالم متحالفة معهما؟
يبدو هنا الإعجازُ الربَّاني في أوضح تجلياته، وتبدو هنا العناية الإلهية في أوضح معانيها، تُعطي القوة الذاتية للمستضعَفين وتُعزِّز الصّبر لديهم والثّقة في النصر بلا عتاد أو عدة، وتُربك موقف الأقوياء المُتجبِّرين الذين يُضطَرون مرارا وتكرارا إلى إعلان فشل خططهم وعجز أدواتهم القمعية عن تحقيق ما رغبوا فيه من أهداف…
ليس هناك تفسيرٌ آخر غير هذا الدعم الإلهي لنصرة المُستضعفين في غزة.. إنها آية أخرى من آيات الله نراها اليوم وعلينا قراءتها بعناية، والأكثر من ذلك الثقة في النتائج التي ستترتب عنها.. مساحة سكانية في حجم غزة، وبعض المخيمات في الضفة الغربية، رجال ونساء وأطفال مستضعَفون محرومون من أدنى وسائل العيش يواجهون كل هذه الضغوط من أعتى قوى العالم ويستمرّون في الصمود وفي الإصرار على مواقفهم ولا ينحنون. أليست هذه في حد ذاتها معجزة ربانية ينبغي التأمل فيها والوقوف عندها؟
نقلا عن الشروق