الآن، وقد اضطرت إسرائيل للإذعان للضغط الأمريكي، والدخول في المفاوضات الجدية لإنهاء الحرب، والانسحاب من قطاع غزة وإعمارها، تدخل في ورطة استراتيجية غير مسبوقة في تاريخها، وتظهر بذلك أولى نتائج حدث طوفان الأقصى.
دولة الاحتلال تقول بأنها حققت في حربها على غزة نصرا استراتيجيا في منطقة الشرق الأوسط، وغيرت موازين القوى كليا لصالحها، وتذكر ضمن مؤشرات هذا الاستنتاج أنها أضعفت محاور المقاومة، ووجهت لحزب الله ضربة قوية يصعب أن يستفيق منها قريبا، وهي توسع من نفوذها في الجنوب السوري، لتبني شريطا عازلا يوفر لها فائض أمن قومي من جهة سوريا، وتؤكد في سياستها الجديدة بسوريا عزمها إخلاء جنوب سوريا من السلاح ضاربة بذلك عرض الحائط لاتفاقية فض الاشتباك التي وقعت بين دمشق وتل أبيب عام 1974، وتقول أيضا إنها أضعفت حماس، وقوضت جزءا كبيرا من قدراتها القتالية ومن بنيتها التنظيمية، وأنها لن تقبل بأي سيناريو في غزة إلا إذا كان خاليا بالكلية من وجود حماس.
عدد مهم من المحللين العرب يساير هذه الأطروحة الإسرائيلية، ويرى بأن أكبر نتيجة لطوفان الأقصى أنه غير موازين القوى كلية لصالح إسرائيل، وأنه تبعا لذلك لا ينبغي ترك الفصائل الفلسطينية المسلحة تقوم بأعمال تجعل المنطقة كلها رهينة لها، وتدخل الدول العربية في دوامة لم تكن مسؤولة عنها ولا مهيأة لإعداد جواب عنها.
والواقع، أن التحليل العميق للمؤشرات، خارج النظر الجزئي الذي يتذرع بحالة الدمار في قطاع غزة ومعاناة أهلها، يؤكد بأن إسرائيل تعيش اليوم في ورطة غير مسبوقة، ليس فقط في ملفي غزة والضفة، ولكن أيضا مع كل محيطها.
قبل طوفان الأقصى، كان مسار التطبيع مع إسرائيل يسير بخطوات سريعة، وأن الأمر لم يكن يهم السلطة الفلسطينية والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، إلى جانب مصر الأردن اللتين دخلتا دائرة التطبيع مبكرا، وإنما كانت اللائحة مفتوحة تضم اثنتي عشرة دولة عربية، كان قطار التطبيع سيكتسحها لولا طوفان الأقصى.
اليوم تغيرت الخارطة بشكل كامل، فلم تكتف الحرب على غزة بتجميد مسار التطبيع، بل أدخلت الاتفاقات التاريخية للتطبيع في حالة من الشك، بعد أن طرح تحدي التهجير، فصارت كل من مصر التي تربطها بإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد، والأردن التي تربطها بها اتفاقية وادي عربة، تريان رأي العين، أن دولة الاحتلال لا تكترث بأمنهما، وأنها في سبيل حل مشكلة غزة والضفة، يمكن أن تعرض استقرار البلدين للانهيار.
لندع مؤشر انهيار مسار التطبيع أو على الأقل تجميده، ولنضف إلى ذلك الصعوبة التي تعيق استئناف هذا المسار من حيث بدأ، بعد إنهاء الحرب في غزة. لندع هذا الملف كلية، وننظر إلى مؤشرات أخرى تتعلق، ابتداء بملف غزة والضفة، ثم بمحيط دولة الاحتلال.
في ملف غزة، هناك حالة إجماع داخل المجتمع الإسرائيلي، أن الإخفاق الشامل هو عنوان السياسة الإسرائيلية، سواء في الحرب أو في المفاوضات، أو في استشراف اليوم التالي.
في الحرب، يظل العنوان العريض هو الفشل في تقويض قدرات حماس القتالية وبنيتها التنظيمية، فقد أظهر الإعلام الإسرائيلي أن أجواء تبادل الأسرى، كانت شاهدة على هزيمة استراتيجية لإسرائيل في غزة، وما يؤكد ذلك، أن إحدى الحجج التي استعملتها حكومة نتنياهو لتبرير تحللها من جزء من الاتفاق في مرحلته الأولى، هو صورة إذلال إسرائيل، التي أمعنت حماس بإبداع متجدد في رسمها عند كل سبت.
أما في المفاوضات، فقد ظهرت إسرائيل للعالم، ليس فقط بأنها غير جديرة باحترام تعهداتها، بل كشفت للكل، بأنها في حالة شديدة من الارتباك، من جراء توقيع اتفاق، وانقلاب عليه، بحجة أن المرحلة الثانية منه، تضعف مواقفها، وتظهرها في صورة المنهزمة استراتيجيا.
المؤشر الأكثر دلالة على الفشل في المفاوضات، أنها أوقفت الاتفاق عند مرحلته الأولى، مع تسجيل عدد ضخم من انتهاكاتها له، وهددت باستئناف الحرب من جديد، لكنها لم تستطع أن تنتقل من خطوة قطع المساعدات بإغلاق المعابر إلى إعلان الحرب من جديد، وقدمت مقترحا بتمديد مرحلة وقف إطلاق النار بستين يوما، بما يعني عدم جاهزيتها للحرب، أو على الأقل، خضوعها للضغط الأمريكي، بالحفاظ على وقف إطلاق النار.
مؤشر آخر على الفشل في المفاوضات أظهر، بأن دولة الاحتلال لا تملك خيارا لا في الحرب ولا في المفاوضات، هو مباشرة واشنطن الحوار مع حماس. وكيفما تمت قراءة هذا الحوار، سواء بوصفه نيابة عن إسرائيل، أو ضغطا عليها، فإن العنوان العريض في الحالتين معا، هو هزيمة استراتيجية لإسرائيل.
في مسألة «الجواب التالي» يبدو الفشل الإسرائيلي أكثر فظاعة، ففضلا عن أنها منذ اليوم الأول من المفاوضات زمن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لم تكن تملك أي تصور له، فإنها اليوم، أكثر اضطرابا في هذا الموضوع، وسيكون عليها في نهاية المطاف، أن تقبل خيار الضرورة الذي أعد بعيدا عنها، سواء بتوافق أمريكي مع حماس، أو توافق أمريكي عربي بموافقة حماس، وذلك كله، يمكن أن نتصور فيه صيغة لعدم إشراك حماس في الحكم، لكن سيظل سلاح المقاومة خارج أي تفاوض.
الفشل على مستوى المحيط، تبدو مؤشراته أكبر، أولها القمة العربية، التي أجمعت على إدانة خطة تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، اعتبرت طوفان الأقصى نتيجة للسياسات العدوانية الإسرائيلية، وأكدت ألا حل خارج حل الدولتين، وعلقت مصير قطاع غزة بإرادة الفلسطينيين.
صحيح أن إسرائيل كسبت من جهة لبنان، التزاما باحتكار الدولة للسلاح وسيطرتها على جنوب لبنان، وأن ذلك يعتبر هزيمة استراتيجية لعدوها (حزب الله) لكن إلى اليوم، لا شيء يؤشر على تحقق هذا الهدف، ففترة التهدئة التي يمر فيها حزب الله، تمليها اعتبارات سياسية داخلية، أكثر منها شيئا آخر متعلقا بإدارته الصراع مع دولة الاحتلال، وخطاب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، يبين بأن صبر المقاومة على انتهاكات إسرائيل لجنوب لبنان لن يطول، وأن مسؤولية الدولة والمقاومة والشعب مقاومة الاحتلال في حالة عدم انسحابه من جنوب لبنان.
في الملف السوري، تؤكد تصريحات الحكومة الإسرائيلية نفسها، بأنها لم تكسب بعد جوارا مسالما، يوفر ضمانة لأمنها القومي، فلا يزال وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس يصرح بأن الذي يحكم سوريا اليوم تنظيم إرهابي، وأنه لن يسمح للجنوب السوري بأن يكون فيه سلاح، وهذا يعني من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، انها استبدلت تهديدا شيعيا ترعاه إيران، بتهديد سني ترعاه تركيا، وأن التحدي زاد خطورة لأن إيران كانت تمر عبر نظام سوريا، الذي كانت تجد هامشا للمناورة بشكل مباشر أو عبر وسطاء، بخلاف، نظام «الشرع» فلا مساحة للمناورة معه، وأن ما يجعله هادئا اليوم، لا يرد على الاستفزاز، هو وضعية الدولة التي تحتاج لتأمين وحدة ترابها، وإدخال الجميع ضمن سلطة الدولة، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، وتأهيل الاقتصاد، وأنه في اللحظة التي ينتهي من هذه المهمات يشتعل اللون الحمر المنذر بارتفاع التحدي الأمني في المنظر الإسرائيلي.
بعبارة، لقد دخلت دولة الاحتلال في أكبر ورطة في تاريخها المعاصر، ولا يبدو في الأفق، أنها قادرة في السنوات القليلة القادمة حتى على محو الصورة البشعة التي ألصقتها بها حكومة نتنياهو المتحالفة مع اليمين المتطرف، حتى ولو كان الثمن هو إنهاء حكومة هذا اليمين، ووضع الحبل على عنق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
كاتب وباحث مغربي
نقلا عن القدس العربي