الحرب التي ستنجب حروبا التلويح بالحرب أو استحقاقات ما بعد سقوط دمشق

د. ادريس هاني

يستمرّ الهياج في زمن باتت الحرب تتجاوز فكرة الخراب المادي، لتصبح نسقا دلاليّا للإذلال. ومع أنّ الغرب الإمبريالي بدأ يتآكل من الدّاخل، حيث اتسعت فجوة التناقض الرأسمالي بين المركز ومحيطه الغربي نفسه، حيث الحرب باتت تتجاوز نظرية الحلف، أجل، فمع كل ذلك تبدو منطقة الشرق الأوسط والخليج هي ساحة تجلّي المعركة الكبرى. ولأنّها اقتربت من مرحلة التشطيب، فهي حامية الوطيس. لم يعد التقدم التقني والقدرة على التدمير كافيين لإطالة نفس احتلال فشل في عملية الإخضاع ولم يحقق أهدافه الأساسية. والرأسمال الأمريكي في هذه المرحلة بات عديم الوفاء للمعسكر الغربي. ويبدو أنّ تفكّك الغرب من هنا يبدأ، والمؤشر هو قرار فرض رسوم جمركية في ما أسماه يوم التحرير.

وفي السياق نفسه لا يهدأ التلويح بحرب قادمة تُحشد لها الترسانة الحربية الأعظم، والهدف هذه المرة هو إيران. ترامب الذي يحسب المكاسب والأضرار جيدا، يبعث رسالة تناقضية: الرغبة في إنجاز صفقة تفاوضية مع طهران، والرغبة في تسديد ضربة عسكرية. وكلا الرسالتين مجتمعتين أو متفرقتين باتت روتينا في العلاقة الأمريكية-الإيرانية، فما الجديد؟

ولا أعتقد أنّ الدول القابعة في المحيط الفارسي ستكون متحمّسة لحرب كهذه، تدرك خطورتها على أمنها القومي. ليبقى السؤال: كيف سيدبر الإقليم تموضعه في حرب كهذه؟

لم يكن المانع من قرار شنّ حرب ضد إيران خلال الأربعة عقود الماضية، روية نابعة من صبر استراتيجي غربي طويل الأمد، فلقد دخلت واشنطن في حروب كبرى خلال تلك العقود وأدركت معنى الفشل في معارك، اعتبرتها أوّل الأمر ناجحة على أساس صفر ضحية، لتنتهي بعجز القوة وحروب خاسرة اقتصاديا بصفر نتيجة. جربت واشنطن ما يكفي من خوض حروب ضد جيوش عقائدية، فلقد خسرت حرب فيتنام، كما خسرت حرب أفغانستان والصومال، وحتى في العراق لم تكن هي من أنهى وجود داعش. لكن كل هذا لا يساوي مغامرة شنّ حرب كلاسيكية على إيران، ليس من حيث أنّ مثل هذه الحرب تحمل الكثير من الاحتمالات ولا يوجد فيها شيء مضمون فضلا عن إعادة توزيع الأوراق وانتشار قوى المواجهة في الإقليم، ولكن من حيث أنّها بالمعايير الإستراتيجية، تعتبر خطوة نحو المجهول. إنّ حربا كهذه ستُسرع من استقالة طهران من اتفاقية حذر الأسلحة النووية، لا سيما وهي تملك اليوم كلّ عناصر صنعها في وقت قياسي. وحتى الفتوى التي كانت ضامنا أساسيا لتحريم صنعها، ستتغير شروطها لصالح حكم جديد عند تغير مَلاَك الحكم. والفقيه أكثر دراية بتحول الحكم عند تغير شروطه ومقاصده وملاكاته، حقيقة يعرفها الولي الفقيه أكثر من غيره ممن يتوسلونه بتغيير الفتوى. فالفتوى عند الفقيه لا تتغير بالمزاج ولكنها تتغير موضوعيا بتغير موضوعها. وهذه الفترة تطور النقاش في هذا الاتجاه لدى السياسيين والتكنوقراط الإيرانيين ممن ليسوا خبراء في صناعة الفتوى وحيثياتها. لكن يبدو أنّ الأمر في حال اندلاع حرب سيصبح تحصيل حاصل. إنّ أكثر المطالبين اليوم بإحراز القنبلة هم الناسيوناليست والتكنوقراط الإيرانيين. ويمكن القول أنّ صنع قنبلة نووية في إيران اليوم هو أسهل من إقناع القيادة بتعديل الفتوى.

ميدانيا كشفت إيران عن أجيال جديدة من الصواريخ، وليس آخر سلاح فتاك أسدلت عنه الستار هو سلاح البلازما. وقد أعلنت طهران بأنّها صوبت كل دفاعاتها الجوية التي ستجعل الحرب معقدة، فدفاعات قوية ومساحات شاسعة ستجعل الحرب داخل التراب الإيران مغامرة عبثية، كما صوبت ألف صاروخ فرط صوتي باتجاه مواقع حساسة في إسر..ائيل، في مقدّمتها مفاعل ديمونا، كما وجهت صواريخ مدمرة لكل القواعد العسكرية الرابضة في محيطها الإقليمي(15 قاعدة). في هذه الحرب لن يكون هناك صفر ضحية.

أجيال من الصواريخ وتقنيات لها سوابق في استنزال أكبر طائرة مسيرة متطورة، هي اليوم في المتحف الحربي بطهران، كما أنّ غلق مضيق هرمز كافي لإلحاق ضرر مفرط في التجارة الدولية. يبقى السؤال البديهي: هل في مثل هذه الحرب، سيستمر تدفق النفط على العالم؟ هل ترامب غير معني بكل هذه الخسائر؟

اليمن أبح معادلة قائمة بنفسها، وهو اليوم يصطدم مباشرة بالقوة الغربية الكلاسيكية، وتبدو الحرب عليه دون جدوى، وأي شيء يربحه في هذه المعركة يعتبر مكسبا. ماذا إذن لو احتدمت الحرب وباتت كل الضربات ممكنة، وأُغلق باب المندب ومضيق هرمز معا؟؟ إنّ العرب خربون إقليمهم حينما أضاعوا ميثاقهم القومي، وتعصّبوا ضدّ بعضهم البعض، ولم يدركوا روح التضامن العربي بوصفه ما نعا من أن يصبحوا عرضة لهذا الشتات، وينتظرون دورهم في ” أُكلة الثور الأبيض”.

وإذن، واضح أمام هذا الاضطراب في اتخاذ قرار الحرب، أنّ خطورتها كافية لتقويض الحماقة السياسية. لكن بين ضلوع التلويحات الساخنة، هناك محاولة لفتح باب حوار بوساطة عمانية. الحرب مع إيران هي حرب مع تنين ذيلهفي الشرق الأوسط ورأسه يطلّ على أوراسيا عبر بحر قزويين.

لن ينج من هذا الحريق أحد في الإقليم، هذا بينما الاحتلال يجد نفسه في مستنقع لا رجعة فيه، يقتضي المغامرة، لكن المغامرة بمصير الدولة العظمى في حرب لا تمزح، ستكون لها استحقاقات أخرى في العلاقة بين الاحتلال وراعيه.

تورّط الاحتلال في حرب لا أفق لها. وهذا ما يفسر إخلاله بكل الاتفاقات، وخرق الهدنة، واستئنافه للحرب على غزة ولبنان وسوريا، ليس له أي مخرج بعد حروب الإبادة التي يتحمل النظام الدولي وزر صمته عليها. فنهاية هذا التلويح نشوب تناقض كبير بين ترامب ونتنياهو، ستكون آثاره التناقضية وخيمة. إنّ المسروق ظهر وبات من الضروري أن يختلف السُّرّاق.

ثمة تناقضات تجري على الساحة السورية، ظاهرها أفلام كارتون حول تثبيت دولة تورابورا في دمشق، بينما باطنها تعزيز تموضع قوى النفوذ داخل الأراضي السورية. قريبا سيكتشف أردوغان ومن صفّق له في هذه اللعبة، بأنّه لم يكن موفّقا، لقد ورّط بلده في مستنقع سوريا التي كانت آمنة ومؤمِّنة لحدوده، لتصبح حدوده ساخنة. بعد ضرب المطارات والسيطرة على الضُّمَيْر، لم يعد للباب العالي أي أمل في مبارحة عتبة شمال سوريا، وحيث ستكون ساخنة في الأيام القادمة.

حكومة النمر الوردي ماضية في السير أثناء النوم، تُنهي مهمّة القتل على الهوية، تجنيس الإرهابيين الأجانب، وضع مفتي تكفيري في بلد تعددي، تجاهل تمدد الاحتلال بالجنوب والاحتلال بالشمال، والتحرش بلبنان، خطة محكمة تتكامل فيها الأدوار، والنتيجة واحدة.

ولا شكّ أن تطور الأحداث بدأ يبدد الصورة النمطية التي أراح بها العملاء أنفسهم وهم يبيعون بلدا استراتيجيا بكل مقدراته للغزاة، انكشفت وستنكشف اللعبة أكثر حينما يدرك العالم بأنّ ما حصل في سوريا ليس ثورة وإنما هو انقلاب أشرف عليه الحلفاء وإقامة حكومة فيشي ملتحي، أنهى عصر سوريا المنيعة. إنّ حبل الكذب ليس طويلا لكي يستمر الرقصُ عليه تحت شعارات مستعملة وغير متأصّلة في الثقافة والمعجم السوسيو-تاريخي للثورة. فلقد تولّدت الثورجية لتلد حكومة “الفراقشة” في دمشق التي لم تشهد في تاريخها الطويل والمأهول، ملحمة لآكلي البشر كما شهدت اليوم.

لن يمر حدث سقوط سوريا دون أن يترك خرابا في المنطقة، وسيكون أثر ذلك على القضية الفلسطينية أخطر. فاليوم أصبح فعل استباحة غزّة أسهل من ذي قبل، فالخراب والحصار وتجويع شعب بكامله، سيكون تلك النقمة التي استفحلت منذ تمّ طعن سوريا من الخلف. وللذين اعتبروا أن سقوط دمشق هو مكسب ونعمة، سيرون من عجائب النقم ما سيجعلهم يندبون حظهم العاثر، ويبكون زمنا جميلا كانت فيه سوريا منيعة مقتدرة قبل أن يغزوها التّتار.

للبُله نؤكّد مرّة أخرى بأن من سقط هو سوريا، التي تمّ اختطافها من الأيادي الآمنة التي أرست السلم الأهلي والسيادة الوطنية وقواعد الإشتباك، فانقلاب الصورة بات واضحا، والصورة النمطية التي سبقت المؤامرة بدّدها تصالح الإمبريالية مع الإرهاب، حيث أدركوا أن لا بديل عن العهد السابق سوى الخراب.

سيكون إذن قرار الحرب صعبا، لكن الحماقة قد تتجاوز كلّ الحسابات، ولكن ما هو واقع، هو أنّ الحرب لم يعد لها من بديل، لقد باتت هوية شرق أوسط لن يكون جديدا، بل سيتمادى في شططه الجيوسياسي، مضطربا، الحرب هنا كما خُطط لها ستكون هوية تاريخية للإقليم، بركان تتنفّس من خلاله كل الجغرافيا السياسية، لذا سيكون الخيار الأخير لهذا الإقليم هو : إمّا أن ينجز مهمّة تحرره الوطني أو لا يكون!

كاتب ومفكر مغربي

نقلا عن رأي اليوم

جمعة, 04/04/2025 - 15:59