تحدي الهجرة العشوائية إلى موريتانيا. (الحلقة الثالثة)

الدكتور محمدو ولد احظانا

ماهو واجب دول مصدر الهجرة تجاه موريتانيا، وتجاه مهاجريها؟

 

مدخل

أسئلة محورية:

 

يطرح تحدي الهجرة العشوائية عبر موريتانيا وإليها، مجموعة من الأسئلة، على المدى القريب، والمتوسط، والبعيد.

القريب تمهيدا للإجراءات الاستعجالية، والمتوسط للإجراءات التوطيدية، والبعيد للخطوات الاستراتيجية.

 

المعالجة

حول صورة موريتانيا في بلدان مصدر الهجرة ومضاعفاتها

 

السؤال الأول:

-ماهي صورة موريتانيا في أذهان سلطات دول المصدر، والمهاجرين إليها من تلك الدول؛ وما أهم خطوات معالجتها من تلك الدول؟

 

السؤال الثاني: كيف يجب التعاطي من طرف سلطات ومواطني دول مصدر الهجرة مع موريتانيا، أرضا، وحكومة، وشعبا، ونظما؟

 

السؤال الثالث: كيف يحل الجيران إشكال الهجرة العشوائية استراتيجيا، من منظور المصالح الكبرى لبلدان المصدر، دون أن تكون على حساب موريتانيا التي هي بلد الوجهة الحالية؟

 

            1

التعاطي المستعجل من بلدان مصدر الهجرة

 

-ماهي صورة موريتانيا في أذهان سلطات دول المصدر؛ وما الخطوات العملية لمعالجتها من تلك الدول؟

 

للرد على هذا السؤال ثمة عنوانان:

العنوان الأول:

-اعتبار موريتانيا وجهة عشوائية لعبور مواطني بلاد المصدر؟

العنوان الثاني: ماهو منهج التعامل الفوري مع الواقع الحالي للمهاجرين العشوائين في موريتانيا، ومحتملي العبور إليها؟

 

العنوان الأول:

قف: هنا حدود دولة تسمى موريتانيا!!

 

أرى أن أول سؤال مطروح على الحكام والسلطات وقادة الرأي في بلدان مصدر الهجرة، هو: 

من الدولة التي تسمى موريتانيا؟

 

أزعم أن مستويات ثلاثة في دول مصدر الهجرة: (الحكام، النخبة من قادة الرأي، المهاجرين)؛ لم تطرح هذا السؤال على نفسها يوما، أو طرحته ولم تجب عليه، بدليل التعاطي المرتبك منها مع تفاقم الواقع وارتداده عليها، عندما رفعت سلطات موريتانيا علامة: "قف. هنا حدود دولة تسمى موريتانيا".

 

رغم أن أي موريتاني يخرج من بلده يجد أمامه عند الحدود إشارة: 

"قف. هنا حدود دولة تسمى السينغال" أو مالي، أو غينيا، أو غينيا بيساو، أو الرأس الأخضر، أو بركينا فاسو، أو ساحل العاج، أو الجزائر.. أو المغرب.. سواء كانت الحدود مع تلك الدول مباشرة أو غير مباشرة؛ فلابد للموريتاني أن يستظهر ببطاقة تعريفه، أو جواز سفره، وبطاقة تلقيحه عن الحمى الصفراء، أوكوفيد في أيامه، أوالأوبئة الخطيرة المعدية التي تتوطن المنطقة؛ 

ثم لابد له من دفع الرسوم، وتحديد الوجهة، والغرض من الزيارة أو العبور.. وتحقيق شروط الإقامة؛ 

فيبدو في المقابل أن العابرين إلى موريتانيا قصد الهجرة تعودوا على العبور السهل دون هذه الإشارة وما يتصل بها من الإجراءات، حتى أصبحت عادة أقوى من القانون لديهم، وقناعة بالتجربة لا يزحزحها شيء. مفاد هذه المسلمة أن العبور غير القانوني إلى موريتانيا حق طبيعي للعابرين من غرب غريقيا وغيرها.

ولذا فإنهم اعتبروا أنفسهم مظلومين عند مطالبة السلطات الموريتانية الاستظهار بأي وثيقة تثبت هوية الداخلين إلى البلاد. أو بإقامة المقيمين.

ويتعلق الأمر أساسا بدول يعاني سكانها من بيئة طاردة لمواطنيها: سياسيا، أو اقتصاديا، أو عسكريا، أو عنصريا، أو عمالة، أو فقرا، أو تناحرا اجتماعيا، أو قمعا، طمعا بوطن بديل، أو النجاة، أو تحسين الحال؛ أو كل ذلك معا.

لقد شاع أن موريتانيا أحسن حالا أمنيا، و ستكون أحسن اقتصاديا، أو هي أقرب إلى عدوة الأحلام في شمال الكرة الأرضية التي يعيش أهلها سعادة دار الدنيا. أو هي السبيل الأنسب للعبور العظيم.

 

روافد فكرة العبور والتوطين:

 

العامل الأول:

العامل السياسي المقصود

 

-من أهم أطياف صورة موريتانيا المعبر والمقام، وأخطرها على الوحدة الوطنية الموريتانية التعددية المؤلفة من (ناطقين بالحسانية- ناطقين بالبولارية- ناطقين بالسوننونكية-ناطقين بالولفية)؛ حلم نوطين قومية واحدة من هذه القوميات، ذات الامتدادات الكبيرة والراسخة في غرب ووسط أفريقيا، في وطن بديل لهذه القومية عن أوطانها الحالية. لما تلاقيه من نصب وقمع لطموحها الثقافي والسياسي في أوطانها الأصلية، لأسباب دينية أو عنصرية ضدها، مما يجعل مشروع البحث لها عن "أرض ميعاد لا مواطنين لها بالمعنى الحرفي" مسلمة، وقد توطدت الشائعة بعد وثيقة التفاهم الموريتانية الأوروبية بشأن الهجرة، وما أشيع حول مضامين كاذبة وساذجة لهذه الوثيقة، تفيد "بشراء أرض موريتانيا من طرف الأوروبيين لتكون وطنا للهجرة العشوائية." ولم يترك كشف ونشر وزير الداخلية واللا مركزية الموريتاني عن مضمون هذه الوثيقة أي لبس في زيف تلك الشائعة المغرضة.

وقد استغلت بعض الحركات العنصرية الإقليمية هذه الملابسات لإنعاش مشروع قديم جديد لديها فحواه أن تعيش قومية غرب أفريقية حلمها المتجدد بالنقاء العنصري الصافي في أرض كلها لهم وحدهم، يتداعون إليها من جميع أصقاع إفريقيا الغربية والوسطى بالملايين حتى يغرقوها سكانيا، هي موريتانيا (أرض البظان) تاريخيا: موريتانيا بطيفها البشري الملون العربي الصنهاجي الإفريقي

توجد هذه النزعة المتطرفة -حقيقة- لدى أقلية نخبويةومن المواطنين الموريتانيين المنتمين لهذه القومية. 

ونجد بالمقابل رفضا واسعا للمشروع من أغلبية المواطنين المنتمين لهذه القومية في موريتانيا. ونقولها إنصافا وإحقاقا للحق. فالمشروع السياسي المستحيل والمكلف جدا، للحركة العنصرية وحاضنتها الإقليمية، يتعلق بمجموعة من المنهمكين في سياسة إقليمية نشطة ومعلنة، تدعو بصراحة لاحياء فيها ولا تكتم، إلى تهجير سكان موريتانيا التاريخيين بتنوعهم من أرضهم وإحلال قومية واحدة محلهم، على إيقاع هذه النزعة العنصرية الإقليمية المعلنة. التي تنتهج سياسة فرق تسد، تتلخص حلميا في: 

- طرد البظان البيض شمالا؛ 

- ثم السمر في أثرهم؛ 

- ثم الولوف إلى دولتهم السينغال جنوبا؛

- ثم السونونكى إلى دولتهم مالي شرقا؛ 

- ثم أخيرا، اضطهاد السكان المحليين من البولار والفلان باعتبارهم أقلية محلية، كما اضطهد اليهود المهاجرون من الشرق والغرب يهود فلسطين والشرق الأوسط الأصليين.. لكون الوافدين أغلبية عددية.

وهكذا تصبح موريتانيا دولة عنصر واحد ناطق بالبولارية محكوم من غير المواطنين الأصليين.

ويجد هذا الطرح التصفوي العرقي جذوره من أحلام الثمانينيات، كما عكستها وثائق "المشعل الأفريقي" في جناحيه العسكري والمدني، مؤطرا وموجها ومنظما من قبل الرئيس البوركنابي الأسبق حينها: توماس صانكارا، وبعض المخابرات الأجنبية المهتمة. 

ولمن يرغب في الاستزادة الرجوع إلى وثائق الانقلابين الفاشلين المنظمين محليا من قبل "افلام" المذكورة. 

وللإنصاف والتأكيد أكرر أنه لم يكن لهذا المنزع صدى، لا في إفلان، ولا في أغلب التكارير الوطنيين. وأهم دليل على ذلك أنهم وقفوا و عملوا ضد هذا المشررع سرا وعلانية. (ولا تزر وازرة وزر أخرى،) وتعميم تجربة مجموعة سياسية على قوميتها ظلم بواح كان وراء المذابح العنصرية في أفريقيا وغيرها، كما كان وراء ظلم فئات من إفلان خاصة، خلال تلك الأحداث.

 

لعب هذا العامل السياسي دورا أساسيا في نوع من الهجرة السرية والعلنية ذات الطابع القومي العنصري غير القانوني، وهي هجرة توطن لا هجرة عبور. ويغلب على مهاجريها منزع التخلص من وثائقهم المدنية الأصلية أو إخفائها، والسعي للحصول على وثائق هوية موريتانية جديدة، والتهرب من استصدار الإقامة القانونية الموريتانية، والميل إلى العبور الخفي نحو موريتانيا دون تسجيل الدخول، أو التهرب بعده. 

وقد سجلت حالات تزوير كثيرة للأوراق وضبطت موريتانيا شبكات عديدة ذات صلة بالموضوع.

 

-العامل الثاني

عامل الإبادة والتهجير القسري ضد قومية إفلان في دول من غرب أفريقيا

 

هذا العامل قريب من سابقه، و يتعلق في صنفه الأول: 

-بطرد سكان القرى من قومية معينة بواسطة التنكيل وإحراق القرى، وتزيين الهجرة إلى موريتانيا للناجين من الحرق والتنكيل باعتبار موريتانيا بلادا آمنة مقبلة على وفرة، ووطنا بديلا ممكنا يمكن الذوبان فيه.

وتستوحي عصابات التهجير السياسي العنصرية من تجربة سياسيي اليهود خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ليهاجروا إلى فلسطين.

-بالتنفيس الداخلي عن الحكومات الفاشلة، حيث يعتبر تحوير العنف الاحتجاجي المطلبي إلى عنف بين القوميات المنافسة آلية ناجعة لكسب الوقت، وتفريغ الاحتدام السياسي، لدى الأحكام الفاسدة العاجزة عن تسيير بلدانها بصورة مزمنة.

فالتناحر القومي ورقة رابحة لبقاء الحكومات الفاشلة.

لذا فالتحريض على قومية إفلان مشروع مربح للحكومات، وتهجيرهم عن مواطنهم الأصلية بضاعة أربح. 

و تسلح الحكومات بعض القوميات المنافسة ضد إفلان لتحرق قراهم وتنكل بهم، شراء للوقت من تلك الحكومات على حساب شعوبهم.

 

العامل الثالث:

العامل الديني والتنافسي المحلي

 

تعتبر قومية الناطقين بالبولارية، خاصة، قومية حملت بشجاعة وتضحية، راية نشر الإسلام واللغة العربية.. تاريخيا، في غرب أفريقيا ووسطها. ولاتزال.

كما أن لها نمطا رعويا غالبا ينفر منها الفلاحين والقرويين محليا. 

ونتذكر هنا أن حادثة "سونكو" 1989م وما ترتب عليها من تناحر، كانت بين راعي بقر فلاني وفلاح سونونكي، لكن أعادت السياسة الحكومية في السينغال حينها، توجيهها وتحويرها تنفيسا عن احتقان داخلي لتنعكس بسحر ساحر على الناطقين بالحسانية بيضا وسمرا، فارتكبت ضدهم المزاجر المنظمة في السينغال؛ 

وبالتالي فقومية الناطقين بالبولارية مستهدفة من جهات متعددة، ويستغفلها بعض الانتهازيين السياسيين لتوريطها أحيانا في نزاعات قاتلة:

- جهة النزعة التبشيرية المسيحية في كنيسة غرب أفريقيا، لأن الفلان ينشرون الإسلام والعربية بكفاءة عالية في المجال.

- جهة المنافسين المحليين من الفلاحين، والقرويين، والوثنيات المجاورة، من قوميات أخرى.

- جهة التنظيمات السياسية التهجيرية إلى موريتانيا، تحديدا. كما سبق أن ذكرت.

 

العامل الرابع: 

فشل حكومات بلاد المصدر في إدارة بلدانها وصيانة شعوبها.

 

يتمثل هذا الفشل في: 

- خسارة رهان التنمية لأسباب: 

داخلية تتعلق بالفشل في تسيير الموارد، والهندسة السكانية الاجتماعية التي نجم عنها فقر وانفجار ديموغرافي معا؛ 

وأخرى خارجية، تتعلق باتفاقيات الإذعان والغبن مع الشركات الأجنبية، استخراجية كانت، أو خدمية، أو إنشائية.

- فرض سياسات مجحفة دائمة من جهات التمويل الدولي، عبر الاستحواذ الكيدي على الناتج القومي بسياسات مغشوشة، وضرائب مهلكة، تحول الحكام إلى جباة لهذه المؤسسات الدولية، بإشاعة الإرهاق الضريبي، ودفوع خدمة الدين، وتقليص الأجور، واستفحال التضخم، وتنضيب موارد الثروات الوطنية بالرواجع المجهرية الرقمية الخداعية.

هذه السياسات ومشتقاتها هي بطلة الحروب الأهلية، والسلبية الوطنية، وفقدان الأمل في أي خير يدره البلد، والقرف من الوطن عموما.. مما يجعله بيئة طاردة لكل السكان. وخاصة الفئات النشطة من الشباب، فتنفجر فيه قنبلة الهجرة العشوائية المدمرة للبلد. فالهجرة نتيجة لعوامل كثيرة وليست صدفة تاريخية.

إلى ذلك، فإن هجرة سكان بلدان المصدر مدعاة لسعادة حكامهم، فإذا توقف نزيف الهجرة أو عرقلها سبب ما فإنهم يخرجون فزعين من مخابئهم خروج الفئران إن سكب الماء الساخن في جحورها، فتراهم يرعدون ويزبدون ويخرجون عن لياقتهم، لأن مواطنيهم عادوا إليهم!!

إن هذه البلدان الفاشلة في رهان التنمية وإشاعة السلم الأهلي.. تجعل الشباب عنصرا غير مرغرب فيه لأنه إذا احتج على البطالة أزعج وصدع الرؤوس الباردة بضجيجه.

وقد يصبح إرهابيا خطيرا، أو من عتاة المجرمين في أية لحظة، فلاشيء أفضل عند حكامها من دفعه إلى الهجرة على أي نحو ليموت أو ليزعج الآخرين.

للترويح عن القارئ الكريم هنا أذكر قصة دالة عن "رجل قيل إنه سهر ليلة القدر لكي "ينشق عليه القدر" كما سمع بذلك، لأنه إذا انشق عليه، طلب ما يريد ووجده من حينه.

في ليلة القدر أقبل الرجل بإخلاص يدعوا ربه: أن "يشق عليه القدر".

وفي وهن من الليل انشق عليه القدر فعلا، وإذا برأس حمار مقطوع يأتيه مكشرا متهاديا ويسأله:

- قل حاجتك تقض فورا.

فأجابه الرجل دون تردد:

- حاجتي أن تغيب عن ناظري فورا."

كذلك أيضا قادة الدول الفاشلة في حفظ سكانها من الهجرة لا حاجة لهم إذا انشق عليهم القدر سوى أن تغيب القوى الحيوية من مجتمعهم عن عيونهم.

 

العامل الخامس:

ازدراء النخب السياسية في دول المصدر لموريتانيا شعبا وحكومة

 

من اسباب تقَحّم موريتانيا والسعي إلى ابتزازها أربعة رئيسة:

 

-السبب الأول: جهل الحكام والمحكومين في بلدان الجوار لحقيقة موريتانيا حكومة وشعبا. وعدم بذل جهد في التعاطي معها بندية، والترفع عنها، وشيلان الأنوف عاليا في وجهها.

 

السبب الثاني

التصور المغلوط عن موريتانيا أصلا

 

ومن ذلك مثالان عن صورة الموريتاني في دول المصدر:

 

المثال الأول:

صورة الموريتاني في السينغال 

 

للموريتاني صورتان في أذهان السينغاليين إحداهما سبقت الأخرى وهي صورة مشرقة، ألا وهي صورة الشيخ الفقيه العالم الورع المتسامي، والقدوة. وهي صورة أخذها جيل من الأكارم السينغاليين وتناقلوها، ومنها صورة الشيخ محمد الحافظ التجاني، والفقيه الحارث ولد محنض، والفقيه أحمد ولد العاقل، والفقيه المختار ولد ابلول، والفقيه محنض باب ولد اعبيد، والفقيه مين نحن ولد مود مالك قبل، والشيخ سيدي، والشيخ القاضي، والشيخ ولد اغربظ، والشيخ سعد بوه، و الشيخ التراد.. من القادرية. ثم صورة الأمراء الحكماء الأقوياء المنيعي الجانب في إمارتي الترارزة والبراكنه.

وصورة البلاد بهؤلاء مشرقة لكنها محجوبة بصورة ثانية، فهي إذن مقصورة على علية القوم ونخبة فضلائهم.

 

الصورة الثانية صورة "نارو كنار": وهي صورة صاحب الحانوت البخيل، الذي يربي الديْن على رب الأسرة السينغالي، ويتذرع عن الصلاة في المسجد، ولا يعبأ بنظافته ولا نظافة ثيابه، ويسعى للربح مجردا من أي أخلاق، ولابأس عنده بالكذب والخداع.

وهذه هي الصورة الاجتماعية السائدة لدى عامة الناس العاديين في السينغال لفترة طويلة نسبيا.

ولذا بقيت في الأذهان، وانطبعت في العقول، وأصبحت هي المحددة للقيمة التداولية الجماهيرية للإنسان الموريتاني (نار بنيول، ونار بخيص/ البظاني الأبيض والأسود) معا.

هذه الصورة البشعة ورثتها النخبة السينغالية السياسية إلى الآن لأنها من صنف عامة الناس، واستغلتها تعبويا وانتهازيا، وكرستها عمليا، بدليل النظرة الدونية لدى المسؤولين السينغاليين تجاه نظرائهم الموريتانيين من نفس الدرجة الوظيفية.

هده الصورة التي تحجب جميع الخصال الحميدة للموريتاني، وتبرز جميع مساوئه هي الطبعة المتداولة السائدة حتى الآن فيرالوسط السياسي.

ولذا لا غرابة في أن يكون التنقيص من حق موريتانيا في أي شيء على أرضها ورقة انتخابية رابحة في كل حملة رئاسية أو نيابية منذ استقلال الدولتين إلى اليوم، لأن المتلقين العاديين يحملون الصورة الرديئة في أذهانهم بشكل أوضح من غيرها من الصور المتاحة.

وما ردة الفعل الانفعالية الأولية من بعض المسؤولين السينغاليين السامين في مسألة عدم التساوي في تقاسم غاز آحميم الذي لم يستغل حتى الآن إلا آباره الموريتانية، ثم العنجهية الدبلماسية تجاه إشهار موريتانيا لإشارة المرور أمام طوفان الهجرة العشوائية:

"قف. فهنا دولة تدعى موريتانيا"؛ إلا من مشتقات الصورة البشعة عن "نارُو كنار" (شخص البادية).

لقد كان انفصال موريتانيا عن المستعمرة السينغالية خلفية لتلك الصورة السيئة. الناظمة لإدراك حقيقة الموريتاني شعبيا ورسميا. فالكل "نارُو كنار" هناك أوهنا على أرضه.. بالنسبة لجار الجنوب. 

فكيف يرفع نارُو كنار فجأة لافتة "قف"؟ ومن أعطاه الحق في ذلك تجاه مهاجرينا العشوائيين؟!

 

المثال الثاني:

صورة الموريتاني في أذهان الماليين

 

الموريتاني من منظور الماليين مدرك في صورتين:

الصورة الأولى، صورة مهيبة محترمة، وهي صورة الأمير المنيع القاهر، على عهد إمارات: داوود اعروك، وداود امحمد: وأولاد امبارك و مشظوف.

وأضاء هذه الصورة نشر العلم والتصوف القادري عبر الزاوية البكائية: الشيخ سيدي المختار الكنتي، وأبناؤه ومريدوه، والفقيه مودنلله وأبناؤه وتلامذته، والشيخ محمد فاضل وأبناؤه ومريدوه، والشيخ ولد أحمل عثمان وأبناؤه ومريدوه، والفقيه الحاج لحسن ولد آغبدي وتلامذته، والشيخ أحمد حماه الله من التجانية وأبناؤه ومريدوه، والشيخ محمد الأغظف ومريدوه، والشيخ محمد محمود والشيخ المحفوظ ابني بيه ومريدوهما، من الشاذلية الغظفية، والعلماء: صالح ولد عبد الوهاب وصالح ولد الرشيد، ومحمدو سالم ولد الشين، وتلامذتهم، وفقهاء وقراء الزوايا بمختلف انتماءاتهم في تلك الوجهة..

هذه هي صورة الموريتاني التاريخية لدى النخبة الدينية والعلمية المالية ماضيا وحاليا.

أما الصورة الثانية فهي صورة حاجبة للأولى وهي. من شقين: الشق الأول، صورة المنمي المتواضع في هيئته، الذي يقبل في الشتاء وقد كساه المشق، فيزعج الفلاحين في حقولهم، وتغور المياه بقدومه لكثرة ما تشرب دوابه من الماء. دوابه التي تؤدي إلى هجرة أسماك السلمون النهرية فزعا من رغاء الإبل، وينزع صياح غنمه البركة من المراعي، ويشيع القحط على أثره، ويحدو معه رياح السموم؛ ليدبر في الخريف، بعد أن عاث في الأرض.

أما الشق الثاني من صورة الموريتاني الحاجبة فهي لصاحب حانوت التجزئة الذي يجز الآذان بالغلاء، ويأخذ خيرات المدينة ويذهب.. أو هو المار إلى بعض دول أفريقيا دون العناية بأي شيء.

هذه هي الصورة الشعبية المركبة عن الموريتاني في مالي.

ولهذه الصورة المزيفة طبعا كسابقتها صدى في تعاطي المسؤولين الحكوميين الماليين لأن أغلبهم من جنس العامة.

ولا أدل على تشويش الصورة لدى هؤلاء المسؤولين من عجرفتهم في التعاطي مع مسألة الهجرة العشوائية، وسكان المناطق الحدودية بين البلدين. 

أما المواطنون الماليون المهاجرون فتعاطيهم مع إلزامهم بقانون بلادنا، فكان في غاية الفجاجة عندما رفضوا الانصياع، ثم شهروا بنا وأحرقوا وخربوا، في تحد منقطع النظير..

وثمة نوع من الصلف والاستهتار في تجارب سابقة بالشمال المالي. ليس هذا محل ذكرها.

كل هذا جاء رغم أن موريتانيا هي الشريان الرئيس السلس لتموين مالي بالمواد الغذائية لما حاصرها كل الإخوة في الإكواس، وتحتضن مهجري حروبها الأهلية، وكانت مالي مصدرا للإرهاب والجريمة العابرة، حيث جاءت إلينا من عندهم شاحنات متفجرة ومقاتلون. ومارسو مذابح ونهبا ضد مواطنينا.

لقد كانت مالي الرسمية والشعبية تستقل على الراعي المتجول وصاحب حانوت التجزئة ألا يسمح بإقامة قسرية للُفاظة الحرب الأهلية المالية، والفشل التنموي، والتعهدات المؤجلة.. من مقاتلين سابقين وضحايا حروب، وطريدي انقلابات متتالية، ويسألوننا بعد ذلك أسئلة استنكارية: "كيف تتجرؤون وتحولون في موريتانيا دون هجرتنا العشوائوية إليكم، وتجاه من لا أوراق ثبوتية، ولا إقامات قانونية لديه منا نحن الماليين"؟! 

 

العامل الخامس

عامل تشويه بعض المتخبين وقادة الرأي و المدونين الموريتانيين لصورة موريتانيا دوليا

 

إذا كان بعض المنتخبين وقادة الرأي و المدونين الموريتانيين قد نجحوا في شيء نجاحا ملموسا لاجدال فيه فهو تشويه صورة بلادهم. فمن يقرأ أو يسمح كثيرا من تصريحات وتدوينات هؤلاء يتقين أن موريتانيا دولة لاقانون فيها ولا نظام، ولا حكومة، ولا مواطن صالحا.

وأرى هنا أن إشاعة هذه الصورة البشعة تساهم في تحفيز الهجرة العشوائية، عن البلد، إذ تقنع الآخرين بأننا بلاد تمكن استباحتها، واحتلالها سكانيا حتى يؤدي أهلها الجزية عن يد وهم صاغرون لبلاد مصدر الهجرة.

هذه الصورة السيئة إذا انضافت إلى الصور البشعة عن موريتانيا لدى الجيران أصبحت مدعاة للاحتقار، والاستباحة، وعدم المبالاة بقوانينها، وتهجير كل سكانها "الأوباش" من أرض لا تستحقها. 

وأول الداعين لذلك والعاملين عليه بعض النواب الذين يعبئون علانية للحرب الأهلية، وإنشاء دولة النقاء العنصري في موريتانيا.

 

               2

العنوان الثاني

ما المطلوب من الجيران عاجلا، وعلى المدى المتوسط، ثم الاستراتيجي، تجاه مورينانيا؟ كما ورد في بقية الأسئلة السابقة.

 

إن كلا من السينغال ومالي بوابة لأنواع عديدة من الهجرة:

-هجرة المواطنين من عينات عشوائية دون وثائق.

-هجرة العابرين من الفئة النشطة بوثائق وبدونها.

-هجرة العمالة المحلية بوثائق وبدونها.

-هجرة المتوطنين القوميين الإحلالية، بوثائق وبدونها.

 

وبناء عليه فإن على هذين البلدين ومن على رؤيتهما من الجيران أن يتخذوا عدة إجراءات وخطوات فورية لتلافي سوء الأوضاع أكثر من الآن:

1- تصحيح الصورة المغلوطة عن موريتانيا في أذهان المسؤولين عن هذين البلدين، تماما، واحترام بلادنا، واعتبارها دولة ذات سيادة كاملة على أرضها، تصرفا وحماية وخيارات، ومعاملتها بالمثل.

2- المساهمة في كبح جماح الهجرة العشوائية في بلادهم عبر سياسات تنموية استقطابية، وضبط للحدود.

وليعلم البلدان أن المهاجرين الذين يعبرون إلينا من هذين البلدين الجارين من دول أخرى هم على مسؤولية سلطات من تركهم يعبرون إلينا عشوائيا. وإعادتهم بعد ذلك من حيث أتوا مشروعة للسلطات الموريتانية. ونفس الأمر بالنسبة لمواطني البلدين من باب أولى. عن من المعلومات المقلقة أن أزيد من مليون سينغالي لم يحصلوا على حالة مدنية في بلادهم. فأذا عبر هؤلاء على بلادنا عشوائيا فكيف يمكن التعاطي معهم؟

3- تقبل القوانين الموريتانية الجارية على غير مواطنينا، فعودة المقيمين غير الشرعيين حتى يصححوا وضعهم حتمي، وإذا أذنت السلطات الموريتانية في عودتهم تحت القانون فذلك وإلا فهو حق سيادي، كما أن لهاتين الدولتين وغيرهما حق سيادي في إخضاع الجاليات الموريتانية لديهما للقوانين هناك. وغير ذلك "ماه امعدلن الغاية".

4- الكف الفوري عن ابتزاز موريتانيا والمزايدة عليها إعلاميا في حقوق الإنسان، من طرف السلطات والمهاجرين غير الشرعيين المرتجعين إلى بلدانهم. وأدهى من ذلك تشكيل لجان تحقيق تزور موريتانيا من السينغال وكأننا ولاية سينغالية. وغير ذلك من أساليب العجرفة والتعالي والوصاية الوهمية.

5- التحقق من الجاليات وتصحيح وضعيات إقامتها في موريتانيا بمجهود من سفارات بلدانها، وعمل تلك السفارات من دول المصدر على ذلك بصورة شفافة وحثيثة.

6- ترك السلطات للمعاظلة الجوفاء والتنمر على موريتانيا، وإسكات قرع الطبول المجلجلة دون طائل.

 

أما على المدى المتوسط؛ فإن على دول الجوار:

1- أن لا تكون جسر عبور لمواطني دول أخرى إلينا، وأن تتعاون أمنيا مع السلطات الموريتانية الحدودية في حالات عبور مواطني الدول الأخرى، بأن لا تسمح به أصلا.

2- أن تضبط حالة عبور مواطنيها إلى موريتانيا حتى تكون قانونية.

3- أن تسعى بصورة جدية إلى تحقيق الاستقرار والسلم حتى لا تكون بلادا طاردة لمواطنيها.

والأمر هنا يعنينا لأننا متضررون منه مباشرة.

4- توعية السفارات لجالياتها المقيمة بأنها ليست وقودا بشريا لزعزعة الأمن والاستقرار في موريتانيا، بالاستعداد الدائم للتخريب والنهب كلما حدثت احتجاجات سياسية أو تظاهرات مطلبية محلية في موريتانيا. فهم ضيوف لا مواطنون هنا. وما لاتستطيع جالياتنا أن تفعله عندهم لن نقبل أن تفعله جالياتهم هنا.

 

أما على المستوى الاستراتيجي، 

 

فإن المناخ الذي يجب أن تعمل فيه هذه الدول إقليميا، هو:

1- تحقيق معدلات تنمية دائمة وراسخة لشعوب المنطقة؛

2- التعاطي المحترم مع المواطن في كل الدول باعتباره قيمة استراتيجية لا عبء يجب التخلص منه، 3- تبادل إقليمي بناء للمنافع، واحترام متبادل.

4- تحقيق استقلال اقتصادي وسلم اجتماعي، مع العدول عن خيار النماذج التنظيمية الفاشلة والسياسات الاقتصادية العقيمة،

5- أخذ صور محترمة صحيحة عن الجيران حتى تتحقق انسيابية العلاقات البينية المتكافئة.. إلى آخره

 

(الموضوع اللاحق عن موريتانيا: كيف تتعاطى مع تحدي الهجرة الفيضانية العشوائية؟)

ثلاثاء, 08/04/2025 - 19:12