دمشق أو انقلاب مكر التاريخ

د. ادريس هاني

إنّهم ليسوا في مستوى تدبير أزمتهم، إنهم ويا للأسف لهم وفاء شديد لهزيمتهم ولشروطها النظرية والتطبيقية. القضية التي يغفل عنها تيار الهزيمة بعناد، هي أنّنا أمام انهيار نسقي له مبتدؤه في العقل السياسي العربي وله خبره في هذا الاحتراق في الواقع العربي. تيار الهزيمة الذي يفصل بين النظري والعملي، بين قضية وأخرى، وها قد غرق في مغالطة رجل القشّ التي سمّمت المنطق العربي، حتى بات عجزه بنيويّا وشلله شموليّا وتفاهته الكبرى لها مقام الصدارة في موسوعة غينس لو قُيد لها من يدافع عنها في لجنة الترشيح.

هناك إصرار إمبريالي على جعل العرب يتعايشون مع هزيمتهم التّاريخية، وقتل كل محاولة لنهضتهم والتعايش مع هذا البؤس العارم، حتى نضالاتهم غير مكتملة، لا يتسامون عن حساباتهم ولواعجهم في ذروة الاحتجاج: حالة غريبة بين الأمم.. فالتّفاهة محروسة، وهي تطل برأسها عند كل منعطف في أزقة التخلف والمهانة. لم نكتشف بعد هذه الذات، لم نتصالح مع ظلّها بالمعنى اليونغي للعبارة، لا شيء من الإشارة يبلغ محِلَّه، فاللاّوعي الجمعي كَلَّ من الإشارة، وها هو يردد على طريقة السهروردي: وكم أشرنا إيكم فلم تفهموا.

أعود لجوهر القضية، كيف يُعقل أنّ الاحتفال بسقوط دمشق بدا للبعض من بركات الطوفان، بينما الطوفان لقي طٍعانا وعنتا منذ سقطت دمشق وما تمثله في محور لا يروم تفكيكه إلاّ من تكامل في الدّور والمسرحية مع الاحتلال. فما كان يسميه المرجفون بالمسرحية، تأكّد بأنه هو الضامن لمواصلة ما أوقفته ألسنتهم الطّولى. من هم أبطال المسرحية إذن؟

أتباع النمر الوردي وبعد أن ولغوا في دم السوريين بالساحل، يدؤوا يتهيّؤون لمصادرة ممتلكات من نزح منهم إلى لبنان، وقد أبلغوا مخاتير طرطوس بإخبارهم بإمّا وإمّا، أي أن يعودوا أو تصادر أملاكهم، فإذا عادوا فمن يضمن لهم أمنهم؟ ومتى صدق الإرهابيون والخونة عبيد الإمبريالية ومحاورها في الإقليم؟

لا أحد يريد مواجهة الاحتلال وهو يجوب التراب السوري. السيادة ليست أولوية عند عصائب كانوا ولا زالوا قوما بورا، بل الأولوية هي إكمال مشروع طحن سوريا وإخراجها من المعادلة. أولوية الخونة والإرهابيين هو ملاحقة الشعب السوري وفرض الظلامية عليها بأساليب ممنهجة تحت رعاية خصوم سوريا الحقيقيين. فأصدقاء الشعب السوري باتوا اليوم أصدقاء النمر الوردي الذي يتحدّث عن العهد السابق بكثير من البجاحة، بينما يكتظّ القصر الجمهوري بعناصر الاستخبارات الإقليمية والدولية. تلك هي الثورة التي انتهك مفهومها منذ بات الظّلاميون يتحدّثون عنها بلا مواربة، ويقدمونها بلغة البرمجة اللغوية العصبية..

قصارى ما ذهب إليه راعي التّآمر على سوريا، هو تنبيه الاحتلال إلى أنّ الاستمرار بتدمير القدرات العسكرية لسوريا سيقوض القدرة على مواجهة تنظيم الدولة(يعني السلالة نفسها التي سُلِّمت لها سوريا)، كما لمّح إلى أنّ التوصل إلى تفاهمات بين النمر الوردي والاحتلال، شأن داخلي. أي حينما يتعلق الأمر بالاحتلال، يصبح الأمر سياديا، ولكن الإطاحة ببلد بكامله هو ثورة مجيدة.

انقلاب مكر التّاريخ على مكر الانقلاب الإمبريالي على دمشق، هو ما يرسم المشهد القادم على الرغم من تطاول الميديولوجيا الرجعية على حقائق التّاريخ واستحقاقات المستقبل. لقد هيمن الخطاب الكيدي على الرأي العام، هذا في الوقت الذي يرى فيه تيار التمكين ملامح انتصار، ولكنه انتصار على من يا ترى؟ إنه بالفعل انتصار على السيادة والمعنى، لأنّ الأمم لا تصنع نهضتها بالكيد والكراهية والجهل، وهذا ما يحدث بالفعل. فمن صفق لسقوط دمشق هو متورّط في المشروع الإمبريالي حتى لو تعلّق بأستار السيادة خداعا. لكن مكر التاريخ يقذف اليوم برسائله على الهامات البليدة، بأنّ النمر الوردي هو اليوم وبعد أن غرق في دم الشعب السوري، وبعد أن سكت الكاذبون -الذين مرّروا مؤامرة الإطاحة بدمشق بدعوى مساندة الشعب السوري- عن مظالم الشعب السوري اليوم، سكوتا مشبوها، فإنّ سوريا عبر التاريخ تعرّضت للتآمر والغزو والطعان، ثم خرجت من مواجعها صامدة، لا يمكن فرض التّفاهة على شعب عريق.

لقد استفحل الإرهاب في بلاد الشام، وبينما كان القتال جاريا بين الجيش العربي السوري وجحافل الإرهاب، ذلك القتال الذي سمته الآلة الإعلامية الموجهة بقتل الشعب، بتنا اليوم أمام طحن للشعب على الهوية في غياب الضمير العالمي. اختفى التماسيح، فلا بواكي لمقاتل السوريين. هناك فقط لُعاب يسيل لسراق الله، الذين تحمسوا لزيارة عصائب النمر الوردي، حين يحنّ الإرهاب للإرهاب، فهب أنّ أمر الدول واضح في الديبلوماسية التِّلعابة، فما بال التنظيمات الحيزبون تتنطّع على طريق طلب الحظوات؟ فالشام اليوم تغلي بالغضب الساكن، وكل شيء ممكن، ومن يعتقد أنّ سوريا انتهت فهو واهم. جرعة أخرى من الاستشراف قادمة ستربك كل حسابات النُّمر الوردية والحُمر الوحشية، ضف إليها عضرفوطات الأقاليم غير المعتدلة.

ومهما جردوا سوريا من قدراتها العسكرية، ومهما انتهكوا سيادتها، ومهما تزاحم الغزاة على أرضها، فستخطّئ كلّ حساباتهم، برجالاتها الذين سعرفون كيف يعيدون إنتاجها من تحت الركام. لكن التاريخ يكشف اليوم عن من هم خصوم سوريا بالفعل، عن أولئك الذين تحالفوا مع كل غزاة الدنيا ليطعنوها من الخلف. القيادة السورية التي اجتهدت قدر وسعها لحماية سوريا من الغزاة، كانت بالتأكيد أشرف ممن باعوا سوريا لمن هبّ ودب، وبعد أن كانت محرّمة على الاحتلال شمالا وجنوبا، وعلى الظلاميين ردحا من الزمن، ها هي تلطّخت بكل هذه الرّداءة، ومع ذلك هناك من يتحدّث اليوم عن انتصارات وثورات وتحرر وهلمّ جرّا مما تلوكه بابغاوات الهزيمة، وتيارات المكر، وسراق الله الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ممن شكلوا منذ عقود حُمُرا تركبها الإمبريالية لإنجاز شرق أوسط جديد.

ينسى عبيد المنزل أنّهم في طور أداء مهمّة جيوسياسية، قبل أن تلفظهم المخططات القادمة. وبينما تدعوا النابتة لإكمال ما تعتبره إنهاء للمقاومة، فهي تجهل جهلا شديدا أنّ المقاومة أبدية لا تموت، لأنّها غريزة مركوزة في طبيعة الأمم الحرّة مهما تكاثر من حول المدينة منافقون كثير. السؤال الأرسلاني اليوم هو بقيد القضية المحورية في الصراع الوجودي العربي: ماذا خسر الكفاح العربي بسقوط دمشق؟ دائما سيكون هناك من سيتطوع للإجابة عن سؤال استراتيجي كهذا، كيدا وتكويعا، ولكن الحقيقة هي مرتهنة لقرار مكر التّاريخ، للّحظات القصوى التي يقول فيها التّاريخ كلمته ويعبر فيها عن مكره العظيم. إن دمشق لن تكون لعصائب النمر الوردي، للتطرفات، لكل هؤلاء، بل هي ستكون ساحة صراع لأصحاب النفوذ والمحاور، وذلك في انتظار أن تتبلور إرادتها الحرّة وتمسك بزمام الانتصار لسيادتها. وهذا ما كانت سوريا تؤمن به دائما، فهي: إمّا أن تكون مستقلة وذات سيادة أو لا تكون…

كاتب ومفكر مغربي

نقلا عن رأي اليوم

خميس, 10/04/2025 - 11:46