الليبرالية.الاقتصادية: هشاشة أم خرف؟

الدكتور محمد ولد أحظانا

يواجه العالم اليوم طوفانا غامرا من موجات المد العالي تضرب الاقتصاد العالمي.

وتعاني الأسواق المالية الليبرالية عمليا، من انهيارات متدحرجة، و ذلك بسبب جرة قلم جافة الحبر، وقع به الرئيس الأمريكي اترامب أمرا تنفيذيا من أوامره التنفيذية الكثيرة.

جرة القلم الاستعراضية هذه جرّت على العالم خسارة مئات مليارات الدولار، ابتداء بصديق اترامب المدلل إيلون ماسك الذي هو يد الإصلاح الترامبي للإدارة الأمريكية الحالية، حيث خسرت شركاته العتيدة حتى الآن 30 مليار دولار دفعة واحدة خلال ثلاثة أيام؛ مرورا ب 6 تريليونات خسرتها الولايات المتحدة، وانتهاء بانهيار البورصات العالمية...

كل ذلك الهرج بسبب جرة قلم متعجرفة من شيخ كُبّار، خطر له أن "يخوِّض العالم بنواشة كليب".

إن هذا الحادث الذي عصف بمال الدنيا في أيام قليلة، وسيتعصف بها إن استمر، يُقرأ فكريا على أنه إيذان بخراب الاقتصاد الليبرالي الفخم، منذ بناه آدم اشميث إلى أن أجهز عليه اترامب.

لقد ذكر آدم اسميث أن الليبرالية تقوم على توفير القيمة المضافة (الربح)، وذلك بالمواءمة بين: الزمن، والعمل، ورأس المال، وأداة الإنتاج. 

يعني بالزمن ساعات الشغل، و بالعمل اليد العاملة، وبرأس المال الاستثمار، وبأداة الإنتاج المصنع وما إليه.

وقد قرأ الفيلسوف الاشتراكي ماركس هذه النظرية لصالح العمال، فجعل القيمة المضافة منوطة بساعات العمل غير المعوضة التي يستغل بها رب العمل العمال. ولذا دعا إلى تمليك العمال كل ريع القيمة المضافة لمحورية العمل في تحصيلها. فالعامل الذي يعمل مثلا، ثماني ساعات لا يعوض له منها إلا ساعة واحدة فيغبنه رب العمل بإنتاج سبع ساعات. 

ومن هنا جاءت نظريات ماركس وتلامذته في الاشتراكية، والشيوعية كلها،، هو ورفيقه أنجلز.

وقد استفادت الليبرالية الغربية الجديدة من كتاب رأس المال لماركس فهذبت حقوق العمال، وحددت ساعات عملهم، ورفعت تعويضاتهم، حتى استوعبت المد العمالي بعد الثورة البلشفية في روسيا ومدها الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية.

ومنذ انهيار المعسكر الشرقي في ثمانينيات القرن العشرين أصبحت الليبرالية الحديثة خيارا عالميا اقتصاديا وحيدا، ونجحت الدول الشيوعية الكبرى: روسيا والصين في انتهاج سياسة ليبرالية هجينة، أدت إلى الانخراط في الدورة الاقتصادية الليبرالية العالمية. وتوج ذلك بحضورها في أسواق المال، ولعبة الأوراق والعملات، وحرية التجارة واتفاقياتها الدولية. وبرعت الصين خاصة في الاستحواذ على 35% من إنتاج العالم وتسويقه تجاريا، غالبه صناعات مدنية؛ أعلى من أمريكا بأكثر من الضعف، إذ تنتج 15% عالميا بما فيها تجارة الأسلحة.. أي بفارق 20%. مع أن أمريكا هي أكبر سوق الستهلاكية عالمية.

هذا مع اختلال في الميزان التجاري التبادلي بين الدولتين الأوليين عالميا (الصين والولايات المتحدة) بعجز يصل إلى 450 مليارا تقريبا من أصل كتلة 600 مليار هي حجم التبادل بين البلدين، و الميزان فيها راجح لصالح الصين طبعا.. 

هذه الوضعية المختلة التي جاءت نتيجة عوامل اقتصادية كثيرة من بينها: تلهي الأمريكيين واغتباطهم بلعبة الأوراق المالية، وإيداعات البترودولار، وتحول العملة الأمريكية إلى عملة مرجعية.. وقدرة الخزانة والبنك المركزي الأمريكيين على سحب ما يشاؤون من دولارات على الثقة الدولية، وتراكم الذهب المودع من الدول في الملاذات الأمريكية الآمنة.

وهذا مع تكلفة اليد العاملة في أمريكا، ورخاصتها في الصين.. 

في المحصلة لعبت الصين دور المنتج ولعبت أمريكا دور الجابي، وانشغلت فيه.

هذه الحالة غير المتوازنة أدت إلى تحول غلبة المنتِج على المحصٍّل أخيرا، وهو أمر عميق التأثير جدا في الاقتصاد السياسي، لصعوبة تداركه.

 

تدارك متأخر

هذا الوضع هو ما يسعى اترامب اليوم إلى تداركه عبر مزيد من الجباية، برفع ضريبة الدخول الجمركية على البضاعة الصينية وغيرها من جهة، حتى يتم تحصيل 12 تريليون من عائدات الجمارك. 

ثم استعادة القاعدة الصناعية الإنتاجية وإعادة توطينها في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بتخفيف الضرائب عن العائدين بمصانعهم. وتقليص الدين الاتحادي المتفاقم عبر نقص قيمة الدولار. 

فهل نجح اترامب في أخذ رأس الخيط الطويل نحو تحقيق أهدافه بأمان؟

 

حلم ناقص

 

تكاد تكون "نظرية اترامب" لتدارك الخلل العميق متماسكة من أول نظرة، لكنها تعاني من عيوب كبيرة وعوائق نذكر منها:

 

1- روح المقامرة العاطفية الحماسية في هذه الأطروحة الثأرية المفاجئة، فهي إما أن تنجح، وإما أن تفشل فشلا كارثيا. وهذا أمر بالغ الخطورة على الدول المحورية.

 

2- كونها لم تخرج من دائرة الجباية، بل بالمبالغة فيها فقط، فكانها تحفر في البئر إلى أسفل طمعا في الخروج منها.. فالاختلال الأصلي لم يعالج وهو رفع الإنتاج الرخيص المنافس في أمريكا. 

لماذا؟

لأن سبب ارتفاع تكلفة الصناعات في أمريكا عن سواها تعود إلى غلاء اليد العاملة والضرائب على القيمة المضافة، و لأسباب مدنية وقانونية واجتماعية في أمريكا نفسها.. ولا يمكن تجاوزها بهذه السهولة والسرعة. 

كما أن قاعدة الصناعات المدنية الرخيصة في بعض بلدان العالم كالصين مثلا، تجعل المستثمرين لايرغبون في بلاد غالية التكاليف مثل أمريكا.

ثم إن القاعدة الصناعية هاجرت وتوطنت خارج حدود الولايات التحدة الأمريكية في العشرين سنة الماضية، بحثا عن المواد الأولية واليد الرخيصة، وما يترتب على ذلك من قيمة مضافة؛ وعودتها السريعة صعبة ولا تتحقق بجرة قلم مثل الرسوم.

 

3- إحكام الحصار الاختياري:

إن هذه السياسة تقود إلى حالة الحصار الاختياري الغبي، وهي أن يحيط نفسه بسور في وجه الجميع متوهما أنه هو الذي يحاصر الآخرين. مع أنه يحاصر نفسه بالفعل، بما يترتب على ذلك الحصاررمن عواقب. أما الآخرون فهم طلقاء.

وضعية الحماية الغبية هذه تؤدي إلى حالة استغناء جماعي عن صاحبها، خاصة من الناحية الاقتصادية. فالعالم مهما كانت خسائره الفورية، سيختلق آلية تداول دون من يحاصر نفسه، مهما كانت أهميته الحالية، إذ لا وقت يضيعه الآخرون في نهر الواقع الاقتصادي الجارف..

 

4- تكلفة الخطوة مقابل الفوائد المرجوة.

إلى حد الآن، بلغت تكاليف خطوة ترامب فيما يعنيه مدة أربعة أيام، أكثر من نصف الفوائد المرجوة بعد 12 سنة. إضافة إلى خسائر العالم الهائلة. فهو يخطط ل 12 ترليون في العشر سنوات القادمة. وقد خسر منها حتى الآن 6 تريليونات.

 

5- سياسة الانكفاء لها رواجع سياسية خطيرة على العالم ككل، وعلى العلاقات الدولية. ومثالا على ذلك أزمة الانكفاء الحمائي 1929-31 التي أدت إلى تسلم قوى غير مصنفة للحكم في بلدان محورية، ومن ذلك وصول هتلر وموسوليني وافرانكو إلى الحكم قبيل الحرب العالمية الثانية. 

إن انهيار الاقتصاديات ينعكس مباشرة على السياسة، وهذا وجه من وجوه خطورته.

 

6- عدم دقة تشخيص حالة الاختلال في الميزان التجاري حيث لم يستحضر اترامب إلا العوائد المباشرة من البضاعة، أما عوائد الخِدْمات فقد تجاهلها تعمدا أو نسيانا، فأهمل العوامل المترتبة على مرجعية الخوف من القوة، والثقة، والسيادة السياسية، على العالم، وحفظ المصالح الاستراتيجية عبر العالم لتسهيل المصالح؛ وهي قيم نوعية ستتحطم على أنف العم سام عندما ينكفئ على نفسه حمائيا.

غابت عن ذهن اترامب وهو يحسب ميزان الواردات والصادرات كذلك أن كثيرا من الواردات هو من إنتاج شركات أمريكية مهاجرة، تقوم عليها بورصة وولستريت ونازداك وغيرها، وبالتالي فأي واردات لها هي إنتاج أمريكي، وأي خسارة لها هي خسارة أمريكية بامتياز، وأي ضريبة عليها سترتد على أمريكا.

 

بناء عليه

فإنه -بغض النظر عن الآثار اللاحقة إن تطور المشهد- فقد كانت:

1- الآثار الحالية الفورية محبطة، ومكلفة.

2- النتائج العامة كارثية.

3- الآفاق قاتمة.

 

خلاصة

نستنتج من كل هذا أن:

- الخرف الرئاسي الذي ضرب الاتحاد السوفيتي في سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي حتى أطاح به، يضرب الولايات المتحدة الأمريكيةحاليا بقوة، حيث توالى عليها أخيرا شيخان مشكوك في توازنهما وحضورهما وتكييف أفكارهما. 

وهذا مؤشر على شيخوخة فكرهما الجلية. ولا أدل على ذلك من انتهاج سياسة أطاحت بالأول، وجرّت الثاني إلى تبني أفكار اقتصادية حمائية مرحلة ارتجاليا من عشرينيات القرن العشرين بعد أن أثبتت عقمها، وكأن العالم لايزال هناك.

- تدل حادثة توقيع الأمر التنفيذي المثير للجدل على هشاشة الليبرالية. والنظرية الاقتصادية عندما تخضع لمزاج شخص واحد، بحيث يمكنه أن يعصف بها هكذا فهي آذنة بالزوال. على الأقل بصيغتها الحالية.

جمعة, 11/04/2025 - 17:32