ترامب وتياره… عن انجراف الغرب يمينا

عمرو حمزاوي

أتفهم جيدا دوافع بعض الكتاب والمفكرين العرب الذين يتوقفون في شرحهم لفوز دونالد ترامب وللمرة الثانية بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية إما عند حدود إدانة العنصرية والفاشية وخطابات الكراهية التي حملته إلى البيت الأبيض أو التحذير من التداعيات الخطيرة على معيشة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب أو نشر التوقعات السلبية بشأن سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط. فهم محقون في كل ذلك، وليست الموضوعية بغائبة عن توقعاتهم.
أتفهم اندفاع البعض الآخر إلى المرادفة بين فوز ترامب وبين صعود اليمين الشعبوي في العديد من البلدان الأوروبية، وبين الأمرين وبين أزمة حكومات الغرب الديمقراطية التي لم تعد محل ثقة شعبية واسعة وفقدت نخبها القدرة على إقناع الناس بكون آليات الانتخابات الحرة وتداول السلطة وحكم القانون تمثل مجتمعة الضمانة النهائية لصون مصالحهم الفردية وتحقيق الصالح العام.
أتفهم استدعاء نفر ثالث من الكتاب والمفكرين العرب لردود أفعال الليبراليين والتقدميين في الولايات المتحدة وأوروبا، والتعويل عليها كدليل لتمسك المجتمعات الغربية بقيم العدل والحق والحرية والمساواة والتعددية والحدود المفتوحة – قيم الحداثة والديمقراطية والعولمة – وللتضامن مع من يتهددهم ترامب ونظراؤه بالطرد كالمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين أو بالتعقب كالجاليات العربية والمسلمة.
بل يشكل إظهار تضامن ليبراليي الغرب وجماعاته التقدمية المتحلقة حول أفكار اليسار مع الضحايا المحتملين لليمين الشعبوي سياقا هاما وضروريا لتفكيك الكثير من مقولات الجهل والانطباعات السلبية المنتشرة بين العرب والمسلمين بشأن المثقفين العلمانيين والمدافعين عن حقوق المثليين جنسيا والمبدعين المطالبين بإطلاق الحريات الفردية، وهؤلاء يتصدرون اليوم المشهد الرافض للعنصرية والشعبوية.
أتفهم كله ذلك، وليس لدي أخلاقيا وفكريا سوى الموافقة الكاملة والتضامن الشامل. غير أن الاكتفاء بإدانة ترامب ونظرائه أو بالتدليل على تمسك الليبراليين والتقدميين في الغرب بقيم الحداثة والديمقراطية والعولمة يمنعنا دون إدراك الأزمة الحقيقية والعالمية التي يؤشر إليها صعود اليمين الشعبوي.
فمن جهة، تترجم الانتصارات الانتخابية المتتالية لترامب ونظرائه معارضة قطاعات شعبية واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطبقة منذ عقود والتي تتهم بالتسبب في، أولا، ظلم الطبقات العاملة وتوسيع الفجوة بينهم وبين الطبقات الوسطى والغنية، وثانيا التورط في مجاراة آليات عولمة رأس المال والاستثمارات والنشاط الاقتصادي على نحو عدم صناعات كبرى في الغرب وأضاع ملايين فرص العمل على الأمريكيين والأوروبيين ذوي التعليم المتوسط (غير الحاصلين على شهادات جامعية) وغير القادرين على منافسة العمالة الرخيصة في البلدان النامية، وثالثا فتح حدود الغرب لموجات متلاحقة من الهجرة واللجوء والتعامل المتردد مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية والمهاجرين غير الشرعيين ومن ثم تهديد الهوية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات وفرض الاغتراب على من يرون أنفسهم «أصحاب البلاد الأصليين» وملاكها الحصريين.

وبينما تغيب الموضوعية عن بعض هذه الاتهامات – فالغرب لم يفتح فتح حدوده خلال العقود الماضية بل أغلقها، والهويات الاجتماعية والثقافية ليست كيانات ثابتة عصية على التغيير ونقية عرقيا (أمريكا البيضاء وأوروبا الخالية من المسلمين) بل خبرت دوما التبدل والتنوع وتعدد المكونات العرقية، تكتسب الاتهامات المتعلقة بغبن الطبقة العاملة والانفتاح غير المحسوب على آليات العولمة التي يفيد منها فقط الأغنياء والنافذون والقادرون على المنافسة من الشباب الكثير من المصداقية العلمية والفكرية. إلا أن التمايز الذي ألمحه هنا بين موضوعية غائبة ومصداقية حاضرة لا يقلل أبدا من عنفوان معارضة «ضحايا العولمة» في الغرب لسياسات حكومتهم، وصرختهم السياسية والانتخابية بحثا عن التغيير عبر إيصال اليمين الشعبوي إلى مقاعد الحكم وإحلاله محل النخب والأحزاب التقليدية التي فقدت الكثير من فاعليتها (تارة بسبب فضائح الفساد المتكررة وأخرى بفعل آليات العولمة التي تحد من قدراتها على تطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية مستقلة عن رغبات المراكز الكبرى لرأس المال والنفوذ) أو تبني تفضيلاته (من الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي إلى بناء الأسوار على الحدود وترحيل المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين).
من جهة أخرى، يجسد صعود اليمين الشعبوي صرخة مجتمعية لقطاعات شعبية في الغرب ترفض لأسباب متنوعة عمليات التحديث القيمي والثقافي والقانوني التي حولت إلى مقبول واعتيادي ومحتفى به بعض ما كان في الماضي مرفوضا أو محرما أو قاصرا على الهوامش. منذ سبعينيات القرن العشرين، والليبراليون والتقدميون في الولايات المتحدة وأوروبا يرفعون رايات تحديث الأنساق القيمية لإقرار تحييد شامل لدور الدين في الحياة العامة والمساواة الكاملة بين الناس بمعزل عن اختياراتهم الشخصية والانتشاء بالتنوع الثقافي كأساس وحيد للمجتمعات المعاصرة، ودفعوا في اتجاه تمرير تعديلات قانونية علمانية الجوهر تنهي اضطهاد الرافضين للقيم الدينية وتضمن مساواة المثليين جنسيا وتصون حقوق الأقليات على أساس قاعدة الاختيار الحر.
في المقابل، لم يعد النقاش العام في المجتمعات الغربية يرى في رافضي عمليات التحديث هذه سوى مجموعات مسكونة بفهم رجعي للقيم وللدين أو دعاة عنصرية وكراهية وخوف من الآخر وخوف من الاختيار الحر أو متخلفين عن ركب التقدم وعولمة الحدود والسماوات المفتوحة.
صرخة الموصومين بالرجعية والعنصرية ونشر الخوف هي اليوم الاندفاع نحو تأييد اليمين الشعبوي الذي يجدون بسياسييه وشخصياته العامة وحركاته وأحزابه وإعلامه (البديل) الفضاء الوحيد للتعبير عن تفضيلاتهم والمطالبة باحترامها ومقاومة مصائر «الانقراض والاختفاء» التي يفرضها عليهم الكثير من الليبراليين والتقدميين وأدواتهم الإعلامية الكثيرة. أسجل ذلك، على الرغم من قناعتي الأخلاقية والفكرية الكاملة بالأنساق القيمية الحديثة وبالقوانين العلمانية وبقاعدة الاختيار الحر وبحتمية رفض العنصرية وخطابات الكراهية والخوف.
لن يتوقف صعود اليمين الشعبوي غربيا وعالميا قريبا. ولأنه سيكون معنا وسيغير الكثير غربيا وعالميا، يصبح من الضروري الشرح الموضوعي لظاهرة اليمين الشعبوي والابتعاد عن اختزالها ووصم مؤيديها مهما اختلفنا معهم قيميا وأخلاقيا.

كاتب من مصر

نقلا عن القدس العربي

ثلاثاء, 13/05/2025 - 11:37