في الدول التي تراهن على السلم الأهلي والاستقرار المستدام، لا يكون الحوار خيارًا مؤجلاً، ولا مشروعًا ظرفيًا تُمليه الأزمات، بل بنية تحتية سياسية تؤسس لعقد اجتماعي متجدد، يُشرعن المساواة، ويُفعّل العدالة، ويُرخص للمواطنة الحقّة لا الشكلية.
وموريتانيا، وهي تخطو نحو مرحلة جديدة من تفاعل النخب والمجتمع والدولة، مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى حوار وطني جامع، ليس لحل خلافات سطحية، بل لإعادة تعريف المشترك الوطني على أسس صلبة: دولة المواطنة لا الزبونية، دولة القانون لا المزاج، ودولة المؤسسات لا الاستثناءات.
وليس خافيًا أن الممارسة السياسية في البلاد كثيرًا ما طغى عليها منطق التحفّظ والإقصاء والتأويل الضيق لمفاهيم السيادة والنظام العام. لكن الرهان اليوم – في ظل تحولات الوعي وتنامي الأصوات المطالبة بالإنصاف – يجب أن ينتقل إلى منطق الإدماج والتجريب الديمقراطي، ضمن أطر تحفظ مرجعية الدولة وثوابتها، دون أن تفرّغ التعدد من مضمونه.
وفي هذا السياق، فإن التعامل مع بعض الحالات السياسية، كقضية ترخيص حزب لجهة أو شخصية معروفة، أو منع تجمعات جماهيرية أو استقبال شخصيات عامة، يُمثّل اختبارًا حيًّا لحياد المؤسسات ومهنيتها. فالدولة التي تحترم دستورها لا تُعاقب على النوايا، بل على الأفعال. والدستور الموريتاني الذي يستمد مرجعيته من الإسلام لا يحظر التعبير السياسي السلمي، بل يحميه ضمن شروط النظام العام والآداب العامة.
إنه من غير المنطقي أن يُمارس التضييق على جماهير أرادت أن تستقبل شخصية سياسية، ما دام هذا الفعل يتم في إطار سلمي، لا يُخل بالنظام العام، ولا يتجاوز الأعراف الجمهورية. فالدولة الراشدة تختبر مواطنيها، لا تقمعهم، وتربّي الذوق العام، لا تكسر التعبير عنه.
التجربة الديمقراطية لا تُبنى بمنع الأحزاب، بل بتقويم أدائها وضبطها قانونيًا. ولا تُحصن الوحدة الوطنية بالإقصاء، بل بالثقة في مناعة المجتمع ومتانة العقد الدستوري.
إن الدعوة هنا ليست اصطفافًا إلى طرف، ولا تبنّيًا لطرح بعينه، بل هي مرافعة مبدئية لصالح دولة القانون، ومناصرة عقلانية لحق المواطَنة المتساوية. فكلما استطاعت الدولة أن تتعامل مع مكوناتها على أساس الحقوق والواجبات، بعيدًا عن الانتقائية السياسية، كلما ازدادت شرعيتها وعمقها الأخلاقي.
موريتانيا اليوم بحاجة إلى عقل سياسي وطني جماعي، يرقى فوق الانتماءات، ويؤمن أن الاختلاف لا يهدد وحدة الدولة، بل يؤسس لحيويتها. وأن المواطنة ليست منحة تُعطى، بل حقٌ يُحترم، والتعدد ليس خطرًا، بل فرصة لإثراء البناء الديمقراطي.
فليكن الحوار الوطني لحظة تأسيس لا تقاسم، ولغة مستقبل لا رجع صدى للماضي.
وليكن امتحان الدولة في قدرتها على الإنصاف، لا في مهاراتها في التجاهل أو التجميد.