بنظرات ثاقبة لا تخلو من حنو أبوي يشرف معز بوخريص رئيس جمعية "ناس الليل" على تحضيرات قافلة إطعام المشردين في العاصمة تونس. الشقة وكدأبها كل يوم جمعة تعج بشباب تونسي متطوع جاء حاملا أواني الطعام وقلوبا ملؤها الرحمة.
هذه الجمعية الخيرية تنشط منذ عام 2006، وتتكفل كل يوم جمعة بتوفير وجبات ساخنة ومتكاملة للمشردين في شوارع العاصمة تونس.
يمتدّ نشاط الجمعية أيضا إلى توفير الملابس والأغطية، خاصة في فصل الشتاء القاسي على هذه الفئة الفاقدة للسند، التي تخفي وراءها حكايات غريبة ومحزنة أحيانا إلى النوم على الإسفلت في الشوارع.
التزايد المطرد لأعداد المتطوعين جعل جمعية ناس الليل تطوّر نشاطها ليشمل تنظيف قاعات الاستقبال بأقسام الطب الاستعجالي في مستشفيات العاصمة، وذلك بالتنسيق مع مصالح وزارة الصحة.
هبات عينية
يقول معز بوخريص رئيس الجمعية إن كل ما يقدم من وجبات وملابس وأغطية هو من دون استثناء هبات من التونسيين ومن ناشطي الفريق.
ولا تقبل الجمعية المال من المتبرعين، وذلك درءا لشبهات سوء التصرف. وفي بعض الحالات الاستثنائية وأمام إصرار بعضهم يطلب من المتبرع تحديد الأشياء والكميات التي يرغب في شرائها ثم ترسل له الصور والفيديوهات لإثبات وصول تبرعه إلى المحتاجين.
ولاحظت الجزيرة نت دخول شباب وشابات يحملون كميات من الأطعمة وقوارير الماء بصفة عفوية، الأكثر من ذلك انخراطهم في عمليات ملء الأطباق ولفها، دفعهم إلى ذلك الجو الحميمي وحسن استقبالهم من قبل أعضاء الفريق.
ويقول أحمد الغفاري وهو من الناشطين إن مقر الجمعية أيضا هبة من أحد ساكني العاصمة كمساهمة منه في دعم نشاطها واستمراريتها.
وانطلاقا من مبدأ المساواة تنشر لائحة الأطعمة والاحتياجات على صفحة فيسبوك كل أسبوع، وعلى المتبرعين الالتزام بها لتفادي تفضيل بعض المشردين على بعض.
بعض الأشخاص يتواصلون تلقائيا مع رئيس الجمعية من خلال الهاتف لمعرفة ما عليهم إعداده كطبق للأسبوع أو لإعلامه بنية تبرعهم بأشياء أخرى.
يقول بوخريص إن نظام التنسيق هذا لقي تفاعلا ووقعا إيجابيا لدى الجميع، كما يسهل على ناشطي الجمعية عملية تجميع الأطعمة وتوزيعها على الأطباق.
عزف منسجم
اللافت للانتباه أنه ورغم الضيق النسبي للمساحة في مقر الجمعية، فإن الأمور على تعقيدها تسير بنسق انسيابي جميل، الكل يعرف المهمة المنوطة بعهدته.
وكجل العائلات التونسية تتفرد النساء والشابات بمهمة ملء أطباق الطعام وتجميلها، وتتعالى أحيانا أصواتهن بمشاكسات لطيفة لحث الشبان على مجاراة نسقهن في عملية اللف.
سباق جميل على أنغام الملاعق والأواني تسمعه البطون الجائعة لمشردين في أزقة وشوارع العاصمة لم يفتر منذ سنين.
مراوحا بين النظر إلى ساعته وشحذ عزائم الفريق، يضع بوخريص اللمسات الأخيرة قبل استكمال المرحلة الأولى للعمل من رصف ولف للأطباق، لا يفوته أيضا التأكيد على جمالية الوجبة التي ستعكس جمال الأرواح التي أعدتها.
قبل انطلاق قافلة الخير لا يفوته أن يذكّر أفراد الفريق بتعليمات لسلامتهم تتنوع حسب المناطق المزمع زيارتها، الفتيات يعرفن الأماكن التي يمكنهن التحرك فيها والأحياء التي لا يجب فيها الترجل من السيارات ليقوم الشبان بالمهمة وحدهم.
لا ينسى بوخريص تذكيرهم بكيفية التعامل مع المشردين، لا صور، لا مال ولا وعود، في بعض الحالات الاستثنائية التي يحفظونها عن ظهر قلب عليهم مراجعته في الحال.>
طعام وصداقة
ينطلق "ناس الليل" في موكب للسيارات لا يفترق، المحافظة على السرعة المعتدلة وعدم التجاوز هي من التعليمات التي لا يحيد عنها أي سائق. سيارات الطعام تليها سيارات الوجبات الصباحية فالمحملة بالمياه وصولا إلى الملابس والأغطية.
"العم حسونة" كان أول محطة للفريق يعرفونه منذ سنوات، تسابق الجميع للسؤال عن حاله، بعد مدّه بنصيبه من الطعام تقوم الشابات بنزع جواربه وغسل ساقيه ثم إلباسه جوارب نظيفة.
لا مانع لكافة أعضاء الفريق من وصلة غنائية تجعل "العم حسونة" يتمايل منشدا ومقهقها ناسيا للحظات وحدته والبرد الذي تراجع أمام الدفء العائلي الذي أضفته زيارة من يدعوهم بأولاده.
تتوالى المحطات والحالات الإنسانية التي تئن تحت ركام النسيان، منهم من فقد العائلة، أيضا من تنكر له الأبناء فتلقفته الأرصفة والشوارع، أضف إلى ذلك حالات الفقر المدقع لعائلات بأكملها عجزت عن استئجار غرفة.
لا يفتر العزم رغم الضغط الرهيب الذي تحدثه بعض الحالات على نفسيات "ناس الليل"، أحيانا تلمح بريق الدموع في الأعين من هول ما يشاهدون ويسمعون من آلام واستغاثات.
يقول سليم أحد أعضاء الجمعية إنه لا ينبغي أن تتأثر نفسية الفريق سلبا، يجب أن نكتم تأثرنا بما نسمع، فالإحباط إحساس معد يمكن نقله بسهولة من مشرد إلى آخر وعندها تزداد الأمور تعقيدا ويجانب الهدف الرئيسي للجولة.
قاعات الانتظار في أقسام الاستعجال بالعاصمة لها نصيبها أيضا من تنظيف ورفع للقمامة، إذ يتسارع الجميع رغم الاكتظاظ المعهود داخلها إلى إضفاء روح جديدة ونفس نظيف للمكان.
مخاطر واعتداءات
لا تخلو جولات "ناس الليل" من مخاطر واعتداءات لفظية عليهم، فالتجول في بعض شوارع العاصمة مهمة محفوفة بالمخاطر أحيانا.
أكسبتهم التجربة الخبرة في التعامل مع بعض الحالات التي ترفض تلقي المعونة وأحيانا يبادرون بشتم وسب الفريق، هم الحالات التي تكون تحت تأثير الكحول ولا يمكن التكهن بذلك إلا عند الاقتراب منهم.
في أحيان أخرى يحاول بعض المنحرفين الذين يجوبون شوارع العاصمة سرقة بعض الأشياء أو الاعتداء اللفظي عليهم، لكن تنظيم الفريق وتماسكه جعلهم يتفادون الأسوأ في العديد من الحالات.
أفراد جمعية "ناس الليل" مثال للجانب المشرق لشباب تونس، جمعهم حب الخير وإحساس عال بالانتماء إلى هذا النسيج المجتمعي بفئاته المتعددة بلا إقصاء لأي طرف. هم طيور رحمة تحط ليلا على المغيبين من الدفاتر تدفعهم إلى انتظار غد أفضل.
المصدر : الجزيرة