السودان: حتام يهش الطاغية بالعصا الماريشالية؟

صبحي حديدي

الأرجح أنّ الهروب إلى الأمام، من عواصف الداخل ومشكلات المجتمع والاقتصاد والسياسة، كان السبب الأبرز وراء زيارة طاغية السودان عمر أحمد البشير، إلى شقيقه طاغية سوريأ بشار الأسد. ويصعب، استطراداً، أن تكون المصادفة وحدها هي التي صنعت فارق الأيام الثلاثة بين زيارة دمشق، واندلاع تظاهرات الاحتجاج الشعبية الأولى في عطبرة؛ قبيل امتدادها إلى 15 مدينة في 13 ولاية، من الشمال إلى الوسط، ومن الجنوب إلى الغرب. صحيح أنّ تلك الزيارة لم تكن على لائحة المطالب الجوهرية التي أخرجت جماهير السودان إلى الشارع، لكنّ الرابطة في العمق والخلفية لم تكن خافية، ولا يُغفلها المنطق أصلاً؛ ويكفي للبرهنة عليها أنّ أعلام الانتفاضة الشعبية السورية رُفعت، أيضاً، في تظاهرات السودان وكانت بذلك تشير إلى الحقيقة الساطعة التي عرفتها الشعوب وخبرتها: الطغاة أخوة!
وهي أخوّة لا تبدأ من التماثل في الاقتداء المتبادل بخيارات العنف في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، وقمع المتظاهرين، والتنكيل بالنشطاء أو قوى المجتمع الحية؛ بل تشمل، أيضاً، ذلك التماثل المدهش في خطاب اتهام الشعب وتبرئة الحاكم، والحديث عن المندسين والمخربين والمؤامرات الخارجية عملاء السفارات، في مقابل تنزيه السلطات الأمنية عن أيّ جرم أو خلل أو خطأ. فالمستمع إلى كلمات البشير في التعليق على الانتفاضة الشعبية الأخيرة، خاصة إلصاق التهم بـ«بعض الخونة والعملاء والمرتزقة والمندسين»، الذين «استغلوا الضائقة المعيشية للتخريب»؛ يخال أنه إنما يعيد الإصغاء إلى خطاب الأسد، في التعليق على الانتفاضة الشعبية السورية، آذار (مارس) 2011؛ أو مفردات طاغية ليبيا، العقيد معمر القذافي؛ أو طغاة تونس واليمن والبحرين… لا فرق. ليست طارئة، كذلك، تلك البلاغة التي استخدمها البشير في «طمأنة» المواطنين بأنّ «المشاكل الاقتصادية التي يمر بها السودان مقدور عليها»؛ وأنها ليست آثام نظامه، بل تراكمت لأنّ «الغرب ظل يحاصر السودان بسبب رغبة مواطنيه في التمسك بعقيدتهم»!
معطيات معيشة المواطن السوداني تشير، في المقابل، إلى زيادة سعر الخبز ثلاثة أضعاف دفعة واحدة، حتى قبل أن يفرض صندوق النقد الدولي حزمة شروط جديدة؛ وإلى تدهور في قيمة العملة الوطنية، حتى قبل أن يطالب البنك الدولي بإجراءات جديدة في خدمة ديون السودان (56,5 مليار دولار). التضخم، طبقاً لأرقام مؤسسات السلطة ذاتها، يتجاوز 70٪، رغم أنّ العقوبات الأمريكية على السودان رُفعت منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2017. معطيات السياسة، من جانبها، تشير إلى أنّ البشير يواصل إعادة تركيب المسننات في الآلة الأمنية والعسكرية والحزبية التي دشنّ عمليات إنشائها بعد انقلاب 1989؛ على نحو يكفل تمهيد الأرض للتعديل الدستوري الذي سوف يتيح له الترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. وفي هذا المضمار، أطاح بنائبه في الرئاسة (الذي كان هو الذي عيّنه، بالطبع) وجاء بآخر لا شغل له سوى المطالبة بذلك التعديل الدستوري تحديداً. وهكذا فعل في مناصب استخباراتية وعسكرية ودبلوماسية شتى، شملت وزارة الخارجية وإدارة جهاز الأمن والمخابرات، ثمّ رئيس الأركان المشتركة ورؤساء أركان القوات البحرية والبرية والجوية.

المستمع إلى كلمات البشير في التعليق على الانتفاضة الشعبية الأخيرة، خاصة إلصاق التهم بـ«بعض الخونة والعملاء والمرتزقة والمندسين»، الذين «استغلوا الضائقة المعيشية للتخريب»؛ يخال أنه إنما يعيد الإصغاء إلى خطاب الأسد، في التعليق على الانتفاضة الشعبية السورية، آذار (مارس) 2011

واليوم، بدل الهتاف الرسمي الذي كانت السلطة تجبر المواطنين السودانيين على تكراره صباح مساء (أي: «تسقط الأمم المتحدة»، رداً على القرار 1593 الذي يطالب باعتقال البشير وإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور)؛ ها أنّ التظاهرات، في عشرات المدن والبلدات والقرى السودانية، تهتف هكذا: «الشعب يريد إسقاط النظام!». ليست مسألة خبز وغاز ومحروقات فقط، كما تقول شعارات التظاهر، بل هي انتفاضة شعبية ضدّ نظام يحكم منذ 29 سنة بالحديد والنار والفساد؛ وهذه، بالتالي، ليست أولى الانتفاضات الشعبية، ولن تكون الأخيرة، في عمر طغيان البشير. أنّ حزب «المؤتمر الشعبي السوداني، أكبر الأحزاب الإسلامية والممثل في الحكومة، يطالب النظام اليوم بمحاسبة المسؤولين عن مقتل عشرات المتظاهرين؛ وهو ذاته الحزب الذي اسسه حسن الترابي، مهندس الكثير من سياسات البشير، خاصة في التنظير لفلسفة «الحكم الإسلامي». صحيح أنّ البشير زجّ الترابي في السجن ذات يوم، وكان هذا السلوك طبيعياً من طاغية، إلا أنّ مساندة الشيخ للانقلابي كانت حجر زاوية أساسياً في تشييد استبداد الثاني على حساب تبشير الأوّل.
جدير بالتذكير، هنا، أنّ تاريخ الاستبداد، «الوطني» المحلي، في السودان كان قد بدأ بعد سنتين فقط من استقلال البلد عن التاج البريطاني، عام 1956؛ إذْ قاد الفريق إبراهيم عبود الإنقلاب العسكري الأوّل، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1958، ولن يطول الزمن حتى يقود العقيد جعفر النميري الانقلاب العسكري الثاني، في سنة 1969، بعد الإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود. وإذا كان المشير محمد سوار الذهب قد انحاز إلى الشعب، فسلّم السلطة إلى حكومة مدنية بعد الإطاحة بنظام النميري؛ فإنّ ظهور النفط في السودن أسال لعاب القوى العظمى، وكان أحد المحرّكات الكبرى وراء انقلاب 1989 الذي وضع البشير في سدّة الحكم. إنه اليوم، بعد مهازل «انتخابات» رئاسية وبرلمانية تلو أخرى، يواصل التلويح بعصا المارشالية، على رأس تحالفات شتى، تقلبت وتبدلت دون أن تمسّ جوهر الاستبداد ذاته.
لا يصحّ، أيضاً، وعند تثمين آفاق الحراكات الشعبية السودانية المتعاقبة في العصور الحديثة، إغفال حقيقة أنّ السودان بلد تنطبق عليه صفة الدولة ــ الأمّة؛ حتى بعد انفصاله، نتيجة استفتاء شعبي، في تموز (يوليو) 2011، إلى دولتَي شمال وجنوب. سكّانه (قرابة 40 مليون نسمة، مقابل 16 مليون نسمة من أهل الجنوب) يتكلمون أكثر من مئة لغة، ويتوزعون في عشرات المجموعات الإثنية، وينشطرون وفقاً لخطوط ولاء قبلية وجغرافية ليس أقلها انقسام الشمال بثقافته العربية، والجنوب بثقافته الأفريقية أو الوثنية. إلى هذا، ثمة مفتاح حاسم لفهم التاريخ السوداني، هو أنّ الفتح الإسلامي عرّب مصر بعد أقل من عقد على وفاة الرسول، ولكنه توقّف عند حدود السودان، ويمّمت الجيوش شطر الغرب لنشر الإسلام في شمال أفريقيا، ونحو إسبانيا. وسينتظر السودان، الوثني عموماً والمسيحيّ نسبياً، ألف عام أخرى على تخوم الإسلام قبل أن يصل العرب؛ لا على هيئة مجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله، بل كرجال دين وتجّار ذهب وعاج ورقيق، استخدموا القرآن واللغة العربية والطرق الصوفية لتقويض النظام القبلي الناجز، وتفكيك العقائد الوثنية والمسيحية.
ذلك، من جانب آخر، يفسر الخرائط المتحركة للولاءات السياسية والعقائدية، خاصة تلك الدينية والمناطقية. على سبيل المثال الأوّل، فور تنفيذ انقلابه سارع الفريق عبود إلى تعطيل الدستور وحلّ البرلمان وحظر نشاط الأحزاب السياسية، فسانده في هذا زعماء الطريقتين: عبد الرحمن المهدي عن «الأنصار»، وعلي الميرغني عن «الختمية». والمثال الثاني من النميري، الذي حظي انقلابه بدعم مبدئي من الحزب الشيوعي السوداني، وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الاعتقال طيلة سبع سنوات؛ ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري كبار القادة الشيوعيين، وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ؛ قبل أن يهتدي إلى فضائل «الشريعة» في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي، بل يعيّنه وزيراً للعدل!
وتلك سلسلة اعتبارات داخلية تحكم مستقبل انتفاضات الشعب السوداني، ليست البتة منفصلة عن الاعتبارات الخارجية التي يمكن أن تسهم في تعطيل هذه الجولة أو تلك؛ في حراك لا يلوح أنه سوف يترك الطاغية قرير العين، مترهلاً وبديناً، يهش على الجموع بالعصا الماريشالية!

القدس العربي

جمعة, 28/12/2018 - 09:57