الجزائر: عيوننا على السودان وقلوبنا معه

دكتور محيي الدين عميمور

عشنا هذا العام مرة أخرى مهزلة هلال العيد، ورأينا كيف أن الهلال رُؤي، أو قيل إنه رُؤي، في بلدين بينما لم يرهُ أحد في بلد ثالث يقع جغرافيا بين البلدين أو شرقهما أو غربهما، وفي سماء نقية صافية كأنها ضمير مبشر بالجنة.

وأعترف بأن حلول عيد الفطر يوم الثلاثاء بدلا من الأربعاء كان مفاجأة لم يرتح لها كثيرون في الجزائر، لا لشيء إلا لأن نظام العمل المطبق عندنا، حيث العطلة يومان فقط، سيحرمهم من يوم الخميس، وبالتالي من أربعة أيام متتالية من الراحة تنتهي يوم السبت.

لكن مشاعرنا كانت تتابع باهتمام النكسة التي تعرفها الهبة الثورية في السودان، لمجرد أن فريقا من الشارع هناك لم يتعظ من تجربة هاشم العطا، وحاول أن يحتكر التوجه العام لحسابه وعلى حساب فريق آخر، بينما وجد القائد العسكري الجديد، المدعوم من أموال النفط ومن دعم الثورة المضادة في الوطن العربي، الفرصة ليعبث بإرادة الجماهير، وتكون النتيجة المؤلمة سقوط ضحايا أبرياء، تفقد الثورة الشعبية صفتها البيضاء السلمية.

من هنا فإن عيوننا على السودان وقلوبنا معه وأفكارنا مركزة على ما يحدث عندنا، فما حدث هناك هو درسا لنا يؤكد بأنه، إذا كانت العاصمة هي واجهة الوطن فإنها ليست كل الوطن،  وأن محاولة أي شريحة مجتمعية، وتحت أي عنوان كان، احتكار الإرادة الجماهيرية للأمة هي محاولة مجرمة لا يمكن أن تفسّر أو تبرر أو تعلل إلا بأنها تعبير عن طموحات مريضة فاتها أن الشعب الجزائري لم ينسَ على الإطلاق سنوات العشرية الدموية، عندما اختُطفت السلطة بمبررات اختلطت فيها النوايا المتناقضة بالأطماع الخبيثة، حتى وصلنا إلى مرحلة كان التساؤل المُلحّ فيها: من يقتل من؟.

وبدا الأمر في غاية الوضوح عندما تفجرت حالة الهيستريا التي أصابت فريقا تصور بأن الأمور دانت له بفضل “تجميع” (وليس تجمّع)عشرات من الهتافين المنادين بصيحات حق يراد بها باطل، منادين بدولة مدنيةِ الزيِّ عسكريةِ المضمون، ومحرضين القوات المسلحة، بغباء وبلادة متناهية، ضد  رئيس المؤسسة العسكرية، وهم يتصورون أن تلك الهتافات ستدفع الجماهير إلى تلحينها والرقص على إيقاعها أمام كاميرات تلفزة كسولة، ضبابية العدسات محدودة الرؤية.

 لكن ردود الفعل الفاترة لكل ذلك التجنيد المحموم كانت صدمة غير متوقعة، وبرغم كل الجهود التي “أنفقت” في سبيل ذلك، وكانت قيادة المؤسسة العسكرية من الذكاء بحيث تعاملت مع الصخب بهدوء زاد من إثارة أعصاب البعض، خصوصا عندما انتهى أمر الانتخابات الرئاسية المقررة في 4 يوليو إلى ما كان يجب أن ينتهي إليه في إطار تطبيق الدستور، وهو ما أثار عاصفة جديدة من الفتاوى من قبل نفس الذين كانوا ينادون بقراءة سياسية للنصوص الدستورية.

وبعد تكرار لمحاولة قديمة عرفتها مرحلة نهاية الخلافة الإسلامية، عندما خُدع أبو موسى الأشعري، وكُلّف بما يخرج عن كفاءته الفقهية المرموقة،  قام المهماز مرة أخرى بنفس الدور، وظهر بيان جديد لا يخرج في مضمونه عن نفس بيان بعض رجال الدين، وهذا في انتظار بيان آخر ربما يصدر عن ممثلي المسرح الوطني أو عن الفرقة السيمفونية للموسيقى الكلاسيكية.

ومع تواصل بعض أعمال البلطجة مألوفة المظهر والمصدر، وصلت إلى حدّ اختطاف العلم الفلسطيني الجمعة الماضية من زهراتٍ كنّ يرفعنه برمزية نبيلة، افتُعلت تظاهرة حملت راية بيضاء خُطّتْ عليها الشهادة لكي تثار حولها ضجة بليدة تدعي بأن “القاعدة” تتظاهر في الجزائر، وقبل ذلك جرت ردود فعل من الصعب أن تعتبر كلها “عفوية” ضد بعض الوزراء الذين حاولوا القيام ببعض التزاماتهم الوظيفية في عدد من الأحياء، وكانت التعليمات التي أعطيت لرجال الأمن هي ضبط الأعصاب وعدم الانجرار وراء الاستفزازات، التي كان منها عبارات تثير غضب الحليم، ولا أعرف مدى دقة ذلك، لكنني أورده كما سمعته.

ويحدث أمر نظرت له في البداية من منظور الطرافة، ثم اكتشفت أنني متأخر عن حقيقة شعبنا الرائع بردود فعله العفوية.

ففي الأسبوع الأخير من رمضان كان الوزير الأول نور الدين بدوي قد شارك، باسم الجزائر، في القمم التي عقدت في المملكة العربية السعودية، وبدا له قبل أن يعود إلى الجزائر أن يؤدي شعائر العمرة، ربما للتكفير عن الجهود الضائعة والأموال التي أهدرت بدون مردود حقيقي، سياسيا ودينيا.

وحدث خلال طواف الوزير الأول أن لاحظ وجوده بعض الشباب الجزائري، لم يكن من المؤكد أنهم كانوا من التيار اللائكي، راحوا، كما نُقل لي، يهتفون ضده بصرخات من نوع :فلترحلوا جميعا.

وواصل بدوي طوافه بكل هدوء، وقيل لي أنه منع حراسه السعوديين من التعرض للشباب بأي حال من الأحوال،  برغم إصرار قائدهم على التدخل لحماية الزائر الجزائري بمنطق الاهتمام السعودي المعروف برعاية الضيوف.

كنت أسمع الرواية وأعترف أنني ضحكت مع الآخرين، لكن عجوزا من الحضور صرخت في وجهنا قائلة: هاذي سقاطة، قلة حيا، كيف يسمح مسلمون لأنفسهم بارتكاب أمر كهذا وهُم أمام الكعبة ؟ إن المسلم لا يسبّ قاتل أبيه لو التقاه في الحرم المكي، أنهم في بلاد الناس، فكيف يتوجهون بالإهانة لمن يمثل بلادهم في بلاد غريبة، لعل فيها من ينتظرون أي فرصة للتشفي في حال البلاد.

كان ما سمعناه “دوشا” باردا  ألقت العجوز على رؤوسنا، وتغير الموقف 180 درجة، وأعترف أنني شعرت إزاء تلك المرأة البسيطة بمزيج من الخجل والاعتزاز، وكان الخجل لأن انسقت في البداية لما أحسست به من طرافة فيالموقف، وربما بنوع من التشفي غير المقصود، وكان الاعتزاز لأنني اكتشفت روعة شعبنا في التمسك بمكارم الأخلاق واحترام قدسية المكان وحرمة الشعائر، وهو ما عبّرت عنه مضيفتنا شبه الأمية، بحيث أحسست فعلا أن جماهير شعبنا البسيط تتقدمنا جميعا، مثقفين وسياسيين وأنصاف هؤلاء وأولئك.

 وعندما كنت أخطّ هذه السطور تذكرت بأنني لم أقرأ ولم أسمع تعليقا واحدا غاضبا مماثلا من الذين يوصوننا ليلا ونهارا بتقوى الله وبالخشوع في مواقع العبادة، ويذكروننا بقوله عليه الصلاة والسلام: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولم يخرج علينا أحدهم ليندد بتصرف سمج حيث لا يجب إلا أن تقال الأدعية وتقام الصلوات، وسبقتنا إلى التنديد به سيدة شبه أميّة.

ولن أذكر بالفتاوى المملة عن وجوب احترام الحاكم، لأن لي رأيا خاصا في هذا الأمر على وجه التحديد.

هذا جعل التفكير ينتقل بي إلى جهة أخرى كنت تناولتها في وقفة عاجلة منذ أيام، وتتعلق بالموقف من حكومة بدوي نفسها.

وأذكر هنا بأنني كنت أول من طالب بالاستقالة الجماعية للحكومة لتسهيل القراءة السياسية للمادة (104) من الدستور، وليمكن تكوين حكومة وفاق وطني تقلل من حدة التنافر الموجود على الساحة السياسية.

ولقد قلت إنه لا تجمعني بأي عضو من أعضاء هذه الحكومة أي صلة، بل ولا أعرف الأغلبية الساحقة من أعضائها، وما زلت أطالب باستقالتها الجماعية.

لكنني أقول بنفس الإيمان واليقين إن الوزارة الحالية تستحق كل التقدير والاحترام، فهي تتمسك بالمنصب الذي تعرف أن الناس جميعا يهاجمونها من أجله، وهو تواجه من السخط والإنكار ما لم تعرفه أي حكومة في العالم، ولكنها تدرك أن الاستقالة الجماعية، ما لم تكن عملية مرتبة منظمة متفق عليها مُعدّا لنتائجها ستكون أسوا من ألغام الاستقالة المتعجلة التي كنت نددت بها، وقد تكون طريقا نحو الفتنة .

وهذا الموقف في حد ذاته هو دليل رجولة وتمسك باحترام منطق الدولة، وهو ما أقوله وأنا أعرف أن هناك من سينتهز الفرصة للمزايدة ولاجترار البلاغيات والتقيئ اللغوي، كما فعل سفيهُ عاصمة الضباب.

لكن الحق أحق أن يُتبع.

آخر الكلام.

ما زلت أكرر، كفانا مبادرات أصبحت تثير السخرية بل والازدراء، لأن السياسة لا تعرف منطق التسوّل وأسلوب الصدقات.

وقد قلت وأكرر بأن الرسالة الثانية للدكتور أحمد طالب يمكن أن تكون قاعدة سليمة لتحرك فعال نحو إنهاء الأزمة، إذا ارتبطت بنداء المؤسسة العسكرية.

وإذا لم تفهم طبقة سياسية هذا المنطق فلا أتصور أن من حقها أن تعتبر نفسها…طبقة سياسية، وستظل مجرد نادٍ يتغرغر بعنتريات ما قتلت ذبابة، على رأي عمّنا نزار قباني.

رأي اليوم

جمعة, 07/06/2019 - 11:15