الوزير المستقيل سيدي محمد ولد محم.. ماذا قدم للثقافة والإعلام؟.

ما بين فاتح نوفمبر عام 2018 وفاتح يوليو عام 2019، ثمانية أشهر بالتمام والكمال قضاها الأستاذ سيدي محمد ولد محم على رأس وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان، أمضى نصفها يقود حزب الاتحاد من أجل الجمهورية والوزارة في نفس الوقت، ويحضر للمؤتمر العام للحزب الذي عقد يوم 2 مارس عام 2019، وقدم في بدايته استقالته من رئاسة الحزب.
هذه الأشهر الثمانية اختتمها ولد محم باستقالة مدوية، شكلت زلزالا سياسيا غير مسبوق في تاريخ البلد،  فالرجل لم يكن مجرد وزير في الحكومة، بل كان أحد أركان نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز منذ بدء وضع اللمسات الأولى له، أيام أزمة البرلمانيين المدعومين بالجنرالات مع الرئس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله منتصف عام 2008، وقد ظهر ولد محم كقائد سياسي محنك، وناطق باسم الحكومة مرتين (2014و2018-2019)، فكان خطيبا مفوها، ومدافعا شرسا عن النظام وسياساته، كما قاد الحزب الحاكم في أحلك ظروفه، خصوصا في مواسم انتخابية صعبة، من أهمها الانتخابات البرلمانية والبلدية والجهوية، فضلا عن الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وحظي الحزب خلال فترته بالهيمنة على البرلمان والمجالس البلدية بأغلبية ساحقة، والسيطرة المطلقة على كافة المجالس الجهوية في أول انتخابات من نوعها في البلاد.
غير أن استقالته وهو في أوج عز عطائه من وزارة الثقافة سلطت الضوء أكثر على الرجل، وجعلت تاريخه السياسي والمهني محل تتبع وتدقيق من الكتاب والمحللين والرأي العام، وفي هذه العجالة سنحاول التطرق لجانب يسير من ذلك يتعلق بحصيلة الرجل خلال الأشهر الثمانية الأخيرة التي قضاها على رأس وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان. 
ففي ميدان الثقافة يحسب للرجل أنه قاد حملة شرسة لصالح المرشح الموريتاني لقيادة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الاليسكو)، الدكتور محمد ولد أعمر زار خلالها معظم البلدان العربية، وقابل الرؤساء والملوك والقادة العرب مدافعا عن ملف موريتانيا ومنافحا عن مرشحها، ونجح فغ هزيمة تونس مرتين، الأولى خلال مرحلة التنافس على استضافة الاجتماعات حيث فازت موريتانيا على تونس وحصلت على شرف الاستضافة، والثانية حين نافست تونس وسلطنة عمان موريتانيا على منصب المدير العام للمنظمة ، وانتهى التصويت في الشوط الثاني الذي كان بين موريتانيا وتونس بسحق موريتانيا لتونس خمسة عشر صومتا مقابل خمسة أصوات لصالح تونس، مع التنبيه إلى أن الدكتور محمد ولد اعمر سبق وأن رشحته موريتانيا سنة 2017 لنفس المنصب، وقاد وزير الثقافة السابق محمد الأمين ولد الشيخ الحملة لصالحه، لكن جلسة التصويت بحصول موريتانيا على صوت واحد (صوت مندوبها في المنظمة)، كما يحسب لولد محم أنه خلال فترة توليه منصب وزير الثقافة استصدر المدونة الكاملة للتراث المادي واللامادي الموريتاني، بعد أن كانت المنظومة القانونية السابقة تنص على التراث المادي وحده، وهو الأقل أهمية بالنسبة لموريتانيا، حيث ينحصر في المباني والأماكن التاريخية والآثار والتحف وغيرها، بينما يعتبر التراث اللامادي هو الأهم والأكثر بالنسبة لبلادنا إذ يشمل التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغات الوطنية والفنون والفلكلور والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية والصناعة التقليدية.
كما قام بتسجيل مهرجان المدن القديمة على لائحة التراث الوطني، تحضيرا لتسجيله على لائحة التراث العالمي لدى اليونسكو، وشكل لجنة من كبار الباحثين وأساتذة التاريخ لأول مرة في تاريخ البلد، مكلفة بكتابة التاريخ الموريتاني ووضَعَ الإمكانيات الضرورية تحت تصرفها، لكتابة تاريخ موريتاني منقح وفقا للمعايير العلمية التاريخية المتعارف عليها، يكون مرجعا للطلاب والباحثين ومعتمدا في المناهج الدراسية، واستطاع الرجل إقناع الحكومة المغربية باعتماد موريتانيا ضيف شرف في مهرجان الطنطان الصحراوي لثقافة الرحل عبر العالم، وهي أول مرة تتم فيها دعوة موريتانيا كضيف شرف لهذا المهرجان رغم أنها نسخته الخامسة عشر، مع العلم أن قرار استضافة أي بلد كضيف شرف على المهرجان هو قرار ملكي، وفي مجال النشر قامت الوزارة خلال تولي ولد محم قيادتها بطباعة مجموعة من الكتب والمؤلفات الموريتانية من بينها مدونة نوازل ولد الكصري في خمس مجلدات، وهي من تحقيق الدكتور الباحث محمد المختار ولد السعد،  وكتاب "المقامات في الأدب الشنقيطي" للدكتور سيدي احمد ولد الأمير، وديوان المرحوم الشاعر الشيخ ولد بلعمش.
كما وقعت الوزارة خلال فترته اتفاقا للتعاون مع الهيئة العربية للمسرح، وقام بتشكيل وتعيين اللجنة الوطنية العليا للمسرح، كما قرر إنشاء مركب ثقافي كبير في مدينة أطار بولاية آدرار ضم متحفا ومعرضا للصناعات التقليدية ومكتبة رقمية وأخرى ورقية، وذلك للاستفادة من النشاط السياحي وإدخال مفهوم السياحة الثقافية إلى الموسم السياحي السنوي في الولاية، وإغناء السياحة الصحراوية من الناحية الثقافية، وقد تم إعداد الدراسة لهذا المركب ويتوقع ان يشرع في بنائه قريبا، كما انتهت الوزارة من دراسة بناء مشروع معرض ضخم في العاصمة نواكشوط، بالتعاون مع غرفة التجارة والصناعة التقليدية، وبات مخططه جاهزا ودراسته مكتملة، ووصل البحث عن تمويله إلى مراحل متقدمة، وحسب الدراسة فإن هذا المعرض سيكون أهم من قصر المؤتمرات الجديد، باعتبار أن ذلك مخصص للقمم والاجتماعات السياسية، بينما  ينتظر أن يستضيف هذا المعرض  كل شهر معرضا، سواء تعلق الأمر بالمعارض التي تنظمها دول صديقة وشقيقة في بلادنا، مثل المعرض الجزائري والمعرض المغربي والمعرض الصيني وغيره، فضلا عن معارض الكتب ومعارض الصناعة التقليدية والصناعات الوطنية، ومن المقرر أن يكون على طريق المطار الجديد.
وفي مجال الإعلام يحسب للرجل أنه خلال فترة توليه الوزارة تمكن من إنشاء قناة خاصة بالبرلمان، (قناة البرلمانية)، كما قام بتحويل قناة المحظرة إلى التلفزة الموريتانية بعد أن ظلت عبئا فنيا وماليا ولوجستيا على الإذاعة الوطنية، وفي عهده وقعت الحكومة الموريتانية بمبادرة منه على ميثاق إعلان الحريات في العالم العربي، الذي أعده وتبناه الاتحاد الدولي للصحفيين، لتكون سادس دولة عربية توقع عليه، وذلك بعد أن ظلت الحكومات السابقة ترفض التوقيع عليه بحجج مختلفة، كما تم خلال فترته تشكيل وتعيين سلطة الإشهار ولجنة تسيير صندوق الاشهار، وتم إعداد جميع النصوص المتعلقة بتلك السلطة وهيئاتها مثل الصندوق وهيئة التحصيل، كما تم تشكيل لجنة لإعداد وصياغة قانون الصحافة الالكترونية في بلادنا، وخلال فترة توليه الوزارة استضافت موريتانيا عدد من الفعاليات الإعلامية الإقليمية والدولية مثل اجتماعات لجنة الحريات في اتحاد الصحفيين العرب، والندوة التي نظمتها شبكة الصحفيات الموريتانيات بالتعاون الوزارة واستضافت شخصيات بارزة مثل الإعلامي المرموق عبد الباري عطوان وآخرين، وشاركت موريتانيا في اجتماعات وزراء الاعلام العرب في الرياض ممثلة بمعالي الوزير ، وتم تنظيم ورشة لتقييم ومراجعة معايير صندوق دعم الصحافة المستقلة، أصدرت عددا من التوصيات الهامة في هذا المجال. 
إضافة إلى كل ما سبق فقد كانت خطابات الرجل في المحافل الثقافية الوطنية والدولية، تليق بوزير ثقافة ينتمي لبلاد شنقيط، موئل الضاد وموطن العلم والعلماء، بها إبداع رائع، ونفس أدبي، وملمح ثقافي، وثراء تاريخي، عز نظيرها في خطابات غيره من وزراء هذه البلاد، ولعلنا جميعا نتذكر خطابه في مدينة ولاته صبيحة افتتاح مهرجان المدن القديمة في نوفمبر عام 2018، وخطابه في افتتاح مهرجان الشعر الموريتاني بنواكشوط في دجمبر عام 2018، وخطابه في المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الاليسكو) المنعقد في نواكشوط أواخر شهر إبريل الماضي، وخطابه الأخير في افتتاح مهرجان الطنطان بالمملكة المغربية.
وباختصار لا مراء في أن الأستاذ سيدي محمد ولد محم كان وزيرا حريا بالثقافة أن تحتفي به ،وجديرا بها أن تنوه بأمثاله، فقد كان يمثل الثقافة الموريتانية أداء وفهما ورؤية، وقدم لها خلال أشهر معدودات ما لا ينكره إلا  مكابر أو موتور. 
بقلم: مولاي إسماعيل ولد باب ولد الصادق

خميس, 04/07/2019 - 10:10