عدة أسئلة تبادرت إلى أذهاننا حين بدأنا التجول في شوارع تونس العاصمة بعد مرور أقل من أربع وعشرين ساعة على وفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي الخميس: كيف عايش التونسيون هذا الحدث غير المسبوق، وكيف تفاعلوا مع رحيل أول رئيس ينتخب بصفة مباشرة وديمقراطية، بعد مسار فريد من نوعه في المنطقة وكامل العالم العربي، وما الذي سيبقي في ذاكرتهم عن الرجل الذي حكم تونس إلى آخر رمق في حياته ورحل قبل أشهر قليلة من نهاية عهدته السياسية بعد تأكيده عدم نيته الترشح للانتخابات المقبلة.
التونسيون باشروا بهدوء عملهم ونشاطهم على النسق الطبيعي للحياة اليومية غداة يوم حافل بالتصريحات والخطوات السياسية إثر إعلان وفاة السبسي. فتمت فيه عملية تول سلسة لرئاسة الجمهورية التي آلت مؤقتا لرئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، وفقا لما ينص عليه الدستور. كما أعلن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية. عدة أحداث تميزت بالسلاسة برغم وقع الحدث الجلل وصغر سن التجربة الديمقراطية في هذا البلد الصغير جغرافيا لكن الرائد في المنطقة على عدة مستويات.
الصدفة وحدها وضعتني في طريق محمد خليل وهو تاجر سابق في الـ83 من العمر، أخبرني بأنه عرف الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي، وكثيرا ما تناول معه أقداح قهوة في مقهى "لكولوس" في منطقة "الباساج" في العاصمة رفقة أصدقاء مشتركين منذ سنوات خلت. وأضاف قبل أن تغمر العبرات وجهه، بأن خبر وفاته أصابه بالحزن الشديد فقال "مرضت بالفعل طيلة يوم أمس، بحكم معرفتي بالرجل الذي عايشته عن كثب.. وبحكم العمرأيضا فقد تابعت إنجازاته أولا بأول .. السبسي كان الابن الشرعي الوحيد لمؤسس تونس الحديثة الحبيب بورقيبة، من حيث فلسفته السياسية وأفكاره وقناعاته، وكان رجلا طيبا وظريفا وإنسانيا خدم البلاد بجد وحب أتمنى السلام لروحه".
شيماء طالبة في العشرين تلقت خبر وفاة الرئيس التونسي عند مباشرتها العمل، وتقول "تأثرت للخبر لمكانة الرجل لدى التونسيين باعتباره رئيسا للبلاد، تأثرت أيضا للرمزية التي تزامنت مع رحيله في عيد الجمهورية". لكن شيماء لم تخف تخوفها مما سيحدث بعد ذلك ومن ضبابية المشهد السياسي في ما يتعلق بالشخصية التي ستخلف الباجي قايد السبسي في سدة الحكم بعد الانتخابات المقبلة، لاسيما أن تجربة تونس الديمقراطية فتية. و ترى شيماء أن المسارعة في تحديد موعد جديد للانتخابات إضافة لهشاشة الوضع الأمني والاجتماعي، من شأنه أن يثير "القلق" دون أن يتحول بالضرورة إلى خوف، "فقط قلق .. نحتاج إلى رسائل طمئنة لتبديده".
سلوى في السابعة والستين من عمرها تقول "وفاة السبسي كانت متوقعة ومنتظرة بحكم تقدمه في العمر وبحكم ضرورة سيرورة الحياة... الخبر لم يفاجئني تماما. السبسي عمل كثيرا من أجل تونس.. أحترم الرجل السياسي الباجي قايد السبسي الذي أعرفه من خلال اضطلاعه باقتدار بمناصب وزارية مختلفة طيلة مسيرته... لكن في أواخر حياته لم يعد يتحكم في كل شيء، وعهد بعدة مهام إلى المحيطين به. اليوم لا أشعر بالقلق على الرغم من أنه من الضروري توقع كل السيناريوات.. قد نشعر نوعا ما بالقلق لكن تغير الموازين وظهور مؤشرات جديدة تنبئ بتراجع شعبية حركة النهضة اليوم في تونس قد يدفعنا إلى الأمل وقد يخلصنا هذا من الخوف على تونس".
التفاؤل إذا مشروع خاصة حين نرى تفاعل التونسيين الإيجابي مع الأحداث المتسارعة.. أشير فقط إلى روعة الصدفة حيث تزامن رحيل السبسي مع عيد الجمهورية وذكرى اغتيال محمد البراهمي. كما أن روزنامة الانتخابات لم يطرأ عليها تغيير هائل بوفاة الرئيس .. فتاريخ رحيل السبسي إذا مشبع بالرمزية وهو ما سيذكره التاريخ".
عبد القادر الخذيري، وهو في الأربعين من العمر ويعمل في مكتب "عدل منفذ" (الحراسة القضائية) يقول "إن ما حدث في تونس أمس من تول سلس وهادئ للسلطة بعد وفاة السبسي قد يبدو غريبا عما تشهده الدول العربية ودول المنطقة في مثل هذه الحالات، إلا أنها نتيجة منطقية لعمل المؤسسات الدستورية التونسية ووعي المجتمع التونسي بأهمية المرحلة. وهو أمر إيجابي ونلاحظ هذه الإيجابية أيضا في تعامل التونسيين مع رحيل رئيسهم برغم اختلاف البعض بخصوص حصيلته السياسية أو مواقفه، لكن الإجماع حول قيمته الإنسانية والتاريخية منذ أمس وحدت الجميع على الرغم من اختلاف الانتنماءات السياسية".
مع اقترابنا من شارع بورقيبة وسط العاصمة لفت انتباهنا في واجهة إحدى المكتبات العريقة في هذا الشارع عرض كتب للباجي قايد السبسي أو تلك التي تتناول مسيرته. رشاد الذي يعمل في مكتبة "الكتاب"، صرح لنا بأن الإقبال على كتب الرئيس الراحل ارتفع بشكل تصاعدي منذ إعلان خبر وفاته الخميس. فقال "ولو أن الكتب حول السبسي غالبا ما تحظى بالإقبال لدى التونسيين... لكن منذ أمس تصاعدت وتيرة هذا الإقبال على كتب تتناول سيرته أو من تأليفه. كما ازداد الطلب على نسخ الدستور التونسي". وأضاف بأن المقبلين على هذه الكتب ينتمون لشرائح اجتماعية وثقافية مختلفة فمن المواطن العادي إلى المتخصصين في القانون والناشطين في المجتمع المدني، وذلك ربما "رغبة منهم في الاطلاع على تفاصيل جديدة وغير معروفة عن الرجل الذي حكم تونس بعد أول انتخابات ديمقراطية في تونس شهد بنجاحها العالم، وربما أيضا لاكتشاف ما ينص عليه الدستور بعد وفاة الرئيس".
قطع حديثي مع رشاد زبون جاء لدفع ثمن كتب اقتناها من بينها كتابان عن السبسي، ويقول الزبون واسمه كمال الشيباني، "إن وفاة السبسي أمس تدفع إلى التأمل والتفكير وهى المرحلة التي أمر بها حاليا، ولذلك أردت معرفة المزيد عن شخصية الرئيس الراحل ربما لفهم أفضل لما سيحدث بعد غيابه عن الساحة السياسية خاصة أنه من الضروري الإقرار بأن الرجل أنقذ تونس من سيناريوهات مخيفة كانت تتربص بالبلاد، من الوراد إذن بأن الكثير من الأشياء ستحدث في تونس خصوصا في ظل تخبط الطبقة السياسية اليوم" ، لأنها غير جاهزة في تقديري للاضطلاع بمناصب عليا على رأس الدولة" وذلك "مرده بحسب رأيي للنقص الفادح في ثقافتها السياسية. فلا بأس إذن من قراءة بعض الكتب التي قد تفسر الحاضر وتساعد على استشراف المستقبل القريب".
فرانس 24