الإنسان ذو موقفٍ بفطرته، وكائن أخلاقي بما هو إنسان. فهو إما أن يعبّر عن رأي مناصر للخير والجمال، وإما أن يتبنى موقفاً مسانداً للقبح والظلم، وإما أن ينغلق على أنانيته فحسب.
صوّر أبو حيان التوحيدي (ت:400) الجوّ النفسي والثقافي إبَّان التفكك السياسي قائلاً:"وأُخيفَت السُّبُل، وكثُر الإرجاف، وساءت الظنون، وضجت العامةُ، والتبس الرأي، وانقطع الأمل، ونبَحَ كَلْبٌ كَلبا من كلّ زاوية، وزَأَرَ كلُّ أسدٍ من كل أجَمَةٍ، وضَبَحَ كل ثعلبٍ من كل تِلعَة".
هذا الفضاء المتحرك المليء بالأصوات العدوانية يشبه الأجواء التي نعيشها اليوم، فما هو بجوّ تفكير بارد، ولا ساحة لترف فكري. وهو جو تغدو الكتابةُ فيه كتابةً بين صفين لحظة الاصطدام، والتنظير فيه تنظيراً بين جيشين وقت الالتحام.
ولعل الكتابة في ما بعد الربيع العربي تشبه الكتابة وسط ذلك الجو، فالكاتب -إنْ صدق نفسَه وقُرّاءَه- جزءٌ من هذا المجتمع المتحارب. والميزان الأخلاقي الذي في صدره (على لغة أحد الفلاسفة) يجبره على تبني موقف بشأن الأرض الموَّارةِ تحت قدميه. لكنه لن يعبّر عن دخيلة رأيه إلا صرخ به صارخ، أو ضَبَحَ به ثعلب، أو زأر عليه أسد. وهذا يجعل الكتابة في فضاء الانشقاقات مرهِقة مُكلِّفة.
فمهما كتب الكاتب من نصوص عظيمة فإن مخالفيه على الضفة الأخرى لن يعترفوا بها، فهم قد تَبنَّوا رأياً ناقداً للنَّصِّ قبل ميلاده، ولبسوا لَأْمةَ الحربِ ضد الكاتب وما يتلفظ به من كلام، أو يكتب من نصوص.
وبذا يغدو الكاتب إبان الاندياحات الكبرى في أمته مجازفاً برأسماله، متحركاً في ساحة وَغىً وحقلِ ألغام. ولن يخرج من أي تجربة كتابيةٍ إلا وقد جرحته سيوف، ونالت منه رماح، وأخذت منه نِبال. ولا ضير أنْ يُنال من الكاتب، بل الأدهي ما أشرنا إليه من تتفيهٍ للأفكار العظيمة، وتحقيرٍ للنصوص الملهمة التي كانت الأمة ستستفيد منها رأياً هي محتاجة إليه.
لقد انتبه الأديب النمساوي ستيفن زفايغ (ت:1942) لموت الكلام بعد الحرب العالمية الأولى، وهي فترة تشبه فترتنا اليوم. فلاحظ أن المقالات كانت مؤثرةً قبل الحرب العالمية الثانية وماتت بعدها، فكان المقال والشعر يهزّان كيان المجتمع... ثم انقلب كل ذلك انقلاباً، فأضحت الكلمات ميتةً على الورق، لا تهزّ نفْساً ولا تحرّك قلباً. وعُلّل ذلك بكون الكلمة ماتت بعد "قتلها على أيدي مؤسسات الأكاذيب والدعاية".
وهذا أمر نعيشه اليوم، فالماكينات الإعلامية الضخمة للثورة المضادة مسخت الحقيقة، وحوّلتَها إلى وجهة نظر، واغتالت جمال الخبر الصادق بعد أن ضارعتْه بنظيره الكاذب، فغرقَت السوق بالأضاليل، وانصرف الناس واضعين أصابعهم في آذانهم، غير عابئين بالكلام.
يولّد هذا الجو منزعاً يسهّل تخوين المخلصين، فتحار العين الضعيفة في التمييز بين محمد البلتاجي وعبير موسى، وبين منصف المرزوقي ومحمد البرادعي، ويخلط ضعيف النظر بين جهود الشنقيطي للتحرير العقلي للأمة، ومساعي رضوان السيد لإخضاعها. هذا الجو يجعل بعضَ الكُتَّاب المخلصين الهيابين يتوارون ممتنعين عن الكتابة بين الصفَّيْن، منتظرين انجلاء العَجاج وسكون القراع وهدوء المعركة.
غير أن الكاتب المؤمن بنبل رسالته، وواجبه الأخلاقي لا يُلقي السلاح في لحظات رفع السلاح، بل يشحذ سِنَّ قلمِه لنصرة مظلوم، أو إزعاج ظالم، وينشر أوراقه وسط القتام، فالإقدام في لحظات الالتباس ميزة الشجاع، والتصريحُ بالموقف في الأماكن المعتمة امتحانٌ للفارس منذ أيام المتنبي:
o ضَرُوبٌ وما بين الحساميْنِ ضيّقٌ… بَصيرٌ وما بين الشجاعيْنِ مظلمُ!
هذا الجوُّ المُعتِم ولَّد رأياً غريباً ينتشر اليوم بين الشباب الآن. يرى هذا الرأي أن الكاتب الجادّ لا يتّخذ موقفاً حادّاً في أي لحظة، ويتعالى على الخوض في الخلافات. فالعمق يقود إلى النسبية، والامتلاءُ المعرفيُّ يدعو إلى الهدوء في المواقف والتبلُّدِ في المشاعر.
وهذا رأيٌ يفرح به المستبدون والظَّلَمة، فإذا كانت نخبة المجتمع لا تتخذ موقفاً ولا تُبدي رأياً في لحظات الصراعات الكبرى، ولا موقف لها في مأساة الإنسان، فلمَ وُجِدَتْ؟ وما قيمة أنفاس أصحابها؟ فما هم بأطبَّاءَ يعالجون الناس، ولا كناسينَ ينظفونَ الشوارع... ما فائدتهم إذن؟
والتاريخ خير شاهد على بَوار هذه الفكرة، فشخصيات عصر الموسوعات في الشرق والغرب كانوا أصحاب مواقف سياسية وثقافية حادَّة، لذا خَلَدوا. فالخلود لا يتأتَّى دُونَ رُوح وثّابة وقلب دفّاق خفّاق. فالبليد البارد لا يتجاوز ذاتَه الصقيعية، والجمادُ لا روح فيه لتسري في أحشاء القرون.
فكل الشخصيات التي تركَت بصمة في التاريخ كانت ذاتَ مواقفَ حادَّة ومشاعرَ جياشة.
فالتاريخ لا يحركه إلا الحالمون ذَوُو المشاعرِ القوية العميقة، بدءًا بالأنبياء، وانتهاءً بالساسة والكُتَّاب، بغضّ النظر عن صلاحهم وفسادهم. فأئمَّةُ الأُمَّة كانوا نشطاءَ وأصحاب مواقفَ حادَّة (بخاصةٍ الأئمة الأربعة، لذلك قدّمَتهم الأُمَّة).
ومنظّرو الثورة الفرنسية كانوا أصحاب مواقف شاعرية حدّية متزمتة، والآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانوا خليطاً من الشعراء والحالمين، حتى الماديّ كارل ماركس يمكن تصنيف كل ما كتب باعتباره ملحمة شعرية حالمة تسوق الجماهير المطحونة بحداء الشعر إلى أحلام القيامة المنشودة (انظر: Paul Johnson, The Intellectuals, 55-56). وكان جده الفكري هيغل متابعاً شرساً للأخبار، متفاعلاً مع الأخبار السياسية، بل كان يرى قراءة الصحف "ضرباً من الصلاة الصباحية الواقعية".
إن التجريف الثقافي الذي تعرضتْ له مجتمعاتنا على أيدي بلداء العسكر وسفهاء الملوك، خلّف ثقافة شوهاء. فالإنسان ذو موقفٍ بفطرته، وكائن أخلاقي بما هو إنسان. فهو إما أن يعبّر عن رأي مناصر للخير والجمال، وإما أن يتبنى موقفاً مسانداً للقبح والظلم، وإما أن ينغلق على أنانيته فحسب.
إن من المثقفين اليوم من يحاول تثبيط الشباب عن الكتابة، وثنيَهم عن اتخاذ المواقف الأخلاقية، محاولين بذلك تحويل بلداننا "إلى تقاعدٍ فكري... إلى بلدانٍ مغيبةٍ عن مأساة الإنسان الكبرى" بتعبير مالك بن نبي. وهم يحاولون ذلك مع أن مأساة الإنسان اليوم تتكشف في بلدان هؤلاء الشباب، ومدنهم وحاراتهم، لا في مناطق بعيدة، أو بلدان نائية.
ويبقى الحسّ الفطري عاصماً للإنسان، به يميز الشحمَ والورم، وبين دافعي ضريبة التحرر كرماً، وقابضي أجرة العبودية طمعاً. به يميز بين البلتاجي وعبير موسى، وبين الشنقيطي ورضوان السيد.
قيل لأعرابي: أتريد أن تُصلبَ في مصلحة الأمّة؟ قال: لا، ولكني أحبُّ أن تُصلَب الأُمّة في مصلحتي. وكثير من هؤلاء المثقفين نسخٌ معاصرة من ذلك الأعرابي، وإنْ جعجعوا ورصُّوا الكلام رصّاً.
لكن الأعرابي فاقهم بفضيلة الصدق، وانحدروا عنه بشيمة النفاق. فاكتبْ بين الصفين، وعبّرْ عن رأيك وسط الاشتباك، فلعلك تساعد حائراً، أو تقوّي قلب جبان، أو تضع لبِنة تساهم في تكريم إنسان لم يُولَد بعد.