ما أعلن في تونس يوم أمس من تشكيل «جبهة الخلاص الوطني» يمثل أول مبادرة جادة من المعارضة للتحرك خارج مربع الاحتجاج والاستنكار لكل ما يفعله الرئيس قيس سعيّد، وخاصة منذ انقلابه على الدستور في 25 يوليو/تموز الماضي وما أعقب ذلك من قرارات انفرادية دمّر فيها بشكل منهجي كل مقوّمات التجربة الديمقراطية الواعدة في البلاد.
«جبهة الخلاص الوطني» التي أعلن عنها القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي جبهة في طور التأسيس حاليا وتضم إلى حد الآن عشرة مكونات حزبية وسياسية مختلفة. أما الهدف الأساسي من وراء تشكيلها، كما ذكر الشابي نفسه، فسيكون الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني حول الإصلاحات الأساسية في المجالات الاقتصادية والسياسية والدستورية والقانونية ودعم حكومة انتقالية للإنقاذ تقوم على ذلك.
لم تيأس المعارضة إذا من تكرار الدعوة إلى «حوار وطني جامع» لأن قرارات قيس سعيّد «لم تقدم حلولا للأزمات التي تعيشها تونس بل زادتها تعقيدا بسبب المراسيم الرئاسية التي باتت تهدد المستثمرين (..) والنتيجة حصار خارجي زادت في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص» وفق ما قاله الشابي في مؤتمره الصحافي أمس.
الحوار الوطني التي تتجدد الدعوة إليه هو ما اتضح أن سعيّد يرفضه بالكامل فبالنسبة إليه «لا حوار إلا مع الصادقين والوطنيين»، وهو من يحدد طبعا الصادق والوطني من غيرهما، رغم أنه قال ذات مرة بأنه «ليس في وضع يوزع فيه صكوك الوطنية» لكن عمليا هذا ما يقوم به باستمرار. ولهذا يبدو أن المعارضة تتجه الآن إلى حوار وطني يئست بالكامل من أن يكون سعيّد هو من يرعاه أو حتى يشارك فيه اللهم كطرف في الأزمة وليس راعيا للجميع.
المشكل الآن أن هذا الحوار الذي يهدف إلى وضع تصور للانقاذ «قبل أن تغرق السفينة بالجميع» مع شبح الإفلاس الذي بات يهدد البلاد وعزوف الأطراف الدولية والعربية عن المساعدة أو الاستثمار في بيئة مضطربة ومشوّشة، يتطلب أوسع مشاركة ممكنة من الأطراف الحزبية والمنظمات الاجتماعية وهو ما لا يبدو مضمونا حاليا. وحتى الشابي نفسه أشار إلى ضرورة أن تكون هناك «مساندة عريضة لخطة الانقاذ المنشودة لأن هناك كلفة اجتماعية لا بد من تحمّلها».
هنا لا مفر من مشاركة طرفين أساسيين هما «الاتحاد العام التونسي للشغل» المركزية النقابية الكبرى و»اتحاد الصناعة والتجارة» أي منظمة أرباب العمل ولكل منهما مشكلته الخاصة. الأول ما زال لم يحسم أموره نهائيا فهو لا يدري هل يقف مع الرئيس في قرارته أم ضده، فقد رحّب بما قام به قيس سعيّد يوم 25 يوليو/تموز لكنه ظل يعترض مرة، ويؤيد مرة، ويصمت مرة كصمته عن حل «الهيئة المستقلة للانتخابات» بعد ترحيبه بحل البرلمان. أما اتحاد الأعراف فلم يسمع له صوت مميز وكأنه آثر السلامة حتى تتضح لمن ستكون الغلبة في النهاية ثم يقرر.
المشكل الآخر أن الوقت بات يضغط على أنفاس الجميع، فالبلد لم يعد بمقدوره تحمّل مزاجية رجل واحد يقودها برعونة مدمّرا كل ما شيّد في العشرية الماضية من مؤسسات ديمقراطية واعدة سمحت بحياة تعددية لا تزوير فيها ولا تسلطا قمعيا. أما الناس فقد ازدادت معاناتها من غلاء فاحش فقّر المزيد من الفئات الاجتماعية حتى باتت منهكة تماما همّها اللهث وراء لقمة العيش دون اهتمام بمن يحكم البلاد وكيف.
وفي انتظار اتضاح فرص نجاح «جبهة الخلاص الوطني»، خاصة مع تردد البعض في وضع اليد من جديد مع «حركة النهضة» مقابل من يرى أن المرحلة تقتضي تجميد كل الخلافات وإعطاء الأولوية فقط لإنقاذ البلاد والدولة من الانهيار الكامل، فإن ثلاثة عوامل هي من يقرر في النهاية اتجاه الأمور في المرحلة المقبلة:
الأول: مدى استعداد المؤسستين العسكرية في المقام الأول والأمنية في المقام الثاني للاستمرار في مسايرة رئيس الدولة في كل ما يقوم به وسط دعوات لم تعد تتحفظ على مطالبتهما بألا تواصلا ذلك بعد انكشاف لا دستورية ولا قانونية كل ما يقوم به سعيّد.
الثاني: الموقف الدولي مما يجري والمقصود هنا أساسا فرنسا والولايات المتحدة وهما طرفان لهما كلمتهما تاريخيا في كل ما عرفته البلاد. وكلما تأخرت الأطراف الوطنية في حزم أمورها وتقرير طبيعة الخطوة المقبلة أعطت المجال أوسع لتدخل هذين البلدين رغم شعارات رفض التدخل في الشؤون الداخلية التي لم تعد لها معنى.
الثالث: قدرة أوسع الفئات التونسية على مزيد تحمّل شظف العيش المتزايد الذي زاد من استنزاف الطبقة المتوسطة فيما تدحرج ما دونها إلى نسب فقر غير مسبوقة، مع مالية عمومية تترنح ونجدة عربية أو دولية لم تأت مع تعثر المحادثات مع صندوق النقد الدولي. إن أي انفجار شعبي مقبل في ضوء كل ما سبق تطور مجهول ومخيف مع أنه يبدو وشيكا وفق كثيرين.
لكل ما سبق تبدو مبادرة «جبهة الخلاص الوطني» ربما الفرصة الأخيرة قبل أن يغرق المركب بالجميع.
نقلا عن القدس العربي