توجه أحد الكتاب العراقيين برسالة إلى الشباب في بلده فكتب يقول لهم «نيابة عن محبي العراق والمنتمين ولاء ونسبا وجنسية من فئتي العمرية أقدم اعتذاري عن ست عشرة سنة من الإهمال بحجة الصبر للتغيير، فقد صفقنا لعراق ديمقراطي جديد وفرحنا بالتعددية ظنا منا أن من استلم الأمانة سيصونها، وعشنا المحاصصة وبيع المناصب والقتل والتهجير والفساد والرشوة بأعلى المستويات فضاعت أموالكم بسبب تهاوننا وصبرنا في غير محله».
ومضى إياد السعيد في مقال له قبل يومين في صحيفة «الزمان» العراقية اليومية وقعها تحت اسم «أخوكم الأكبر سنا والأقل وطنية» فقال «(…) نسينا أن بعدنا جيلا كاملا بالملايين لم نوفر لهم شيئا فكانت أحلامهم وطنا يوفر لهم الحد الأدنى من العيش بكرامة لكن فاجأتمونا بوعيكم وصلابة مواقفكم، فالواقع الفاسد الذي صنعناه نحن بسكوتنا واجهتموه علنا وبشجاعة لتكون صولتكم نوبة من اللوم والعتب علينا نستحقها ونفخر بها (…)».
في هذه الرسالة وجد الكاتب من الشجاعة ما لم يجده السياسيون، وما لا تسمح به عنجهيتهم حتى أن يفكروا فيه ربما. شباب العراق الآن هم المحرك الرئيسي لانتفاضة الغضب المتصاعدة ضد كل فساد وطائفية ومحاصصة وإهمال للتنمية وللمرافق الأساسية والخدمات في بلد يزخر بالخيرات لكنه نُهب كما لم ينهب بلد آخر ومن قِبل من؟ من قبل من جاء لتحريره من الاستبداد الذي ساد طوال سنوات حكم الرئيس الراحل صدام حسين.
أحد شباب العراق، بل أحد أطفاله فهو من مواليد 2004، بكى بحرقة وهو يتحدث لأحد مراسلي المحطات التلفزيونية العراقية عن كيف للعراق العظيم الذي حدثه عنه والده أن ينحدر إلى هذا الدرك. بكى الطفل الذي يعمل بائعا متجولا في الشوارع عن العراق الذي لم يعرف منه سوى القذارة في الشوارع وانقطاع الماء والكهرباء والبطالة وقصص الفاسدين ونفاق المتدينين وتحكم الإيرانيين ليخلص في النهاية إلى القول بأنه يريد وطنا ليس أكثر.
هؤلاء الشباب في العراق ولبنان والجزائر «قرفوا» من حكامهم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولم تعد لديهم القدرة على تحمل فسادهم المالي والإداري وفشلهم الاقتصادي والتنموي
هؤلاء الشباب الذي يخرج إلى الشوراع كل يوم ويعتصم في ساحات مختلف المدن العراقية بدون حسابات حزبية ضيقة أو طائفية مقيتة، بعضه كان طفلا عندما سقط نظام صدام حسين عام 2003 ودخله الأمريكيون غزاة ومعهم حكام البلد الجاهزون، وبعضه الآخر ولد بعد هذا التاريخ وكلاهما لا يعرف عن العراق المزدهر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي والمحاصر بعد التسعينيات والمصبوغ بلون الدم لاحقا إلا من خلال ما يرويه لهم آباؤهم وأمهاتهم. لكن عراق اليوم المنخور سياديا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا إنما يرونه ماثلا أمامهم بكل تفاصيله المؤلمة. لا أدري إن كان هناك من الكتاب اللبنانيين أو الجزائريين من توجه إلى الشباب في كلا البلدين باعتذار مماثل كالذي توجه به الكاتب العراقي لأن في كليهما الكثير مما يمكن أن يقال. الشباب المحتج في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا وصور وغيرها لم يعرف الحرب الأهلية التي عاشها لبنان لخمسة عشر عاما من 1975 إلى 1990، والتي ما زالوا يخوفونه إلى الآن من عودتها، ومازال بعض أمرائها متنفذين في حياتها السياسية الراهنة، أما شباب الجزائر الذي لم يكل أو يمل وهو ينزل طوال هذه الأشهر الماضية في مظاهرات ضخمة فلم يشهد طبعا حرب التحرير التي طردت المستعمر الفرنسي عام 1962 والتي باسمها تحكم «المجاهدون» في دواليب الدولة وخيراتها لعقود. بل إنهم لا يعرفون حتى سنوات حكم الرئيس الراحل هواري بومدين التي كانت فيه البلاد مهابة في القارة وبين الأمم، قبل أن يتراجع دورها تدريجيا مع الراحل الشاذلي بن جديد الذي جاء من بعده، ثم يتقزم ويتلاشى تقريبا في عقدي حكم عبد العزيز بوتفليقة.
هؤلاء الشباب في العراق ولبنان والجزائر «قرفوا» من حكامهم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولم تعد لديهم القدرة على تحمل فسادهم المالي والإداري وفشلهم الاقتصادي والتنموي. لقد فقدوا الثقة بالكامل في طبقتهم السياسية، حكاما ومعارضين حتى، وفقدوا الأمل في إمكانية أن يرعوي هؤلاء أو يصلحوا البعض مما خرّبوه، لهذا نراهم لا يصدقون أو يطمئنون لأي من الوعود والتعهدات التي تقطعها الحكومات لهم عند كل تحرك.
هؤلاء الشباب في العراق ولبنان والجزائر، مع اختلاف الوضعيات والسياقات المحلية والإقليمية والدولية المتعلقة بكل بلد منهم، يحتاجون خطابا جديدا وتعاملا أرقى وأذكى مع احتجاجاتهم، بعيدا عن الوصاية والأبوة، أو الاستخفاف والتهويل والتخوين أحيانا. هؤلاء يحتاجون إلى من ينزل من عليائه وأوهامه لينصت إليهم ويحاورهم بندية وجدية فهم ناضجون مطلعون على كل كبيرة وصغيرة، ويعشقون المقارنات مع غيرهم في هذا العالم الكبير المترابط في المعلومات صوتا وصورة. هؤلاء لم يعد ممكنا الضحك عليهم بكلمات إنشائية عن دقة المرحلة وإمكانات البلاد والتآمر الخارجي لتبرير الفشل والتفاهة والنهب والمتاجرة بالقضايا الوطنية والدينية المقدسة.
اليوم حين نجد من يتحدث مع هؤلاء الشباب وينصت إليهم ويشركهم في القرار والمسؤولية نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو الانفراج والحل والتطلع إلى مستقبل أفضل.
القد س العربي