ما الذي يمكن لطهران أن تستفيده إن هي كسبت رضا أنظمة عربية مستبدة وخسرت قلوب وعقول شعوب ثارت ضدها؟! لا شيء سوى مجازفة إيران بإضاعة كل رصيد لها في ساحة ليس من السهل الظفر فيها برضا الناس وثنائهم.
قبل يومين حاول متظاهرون حرق مبنى القنصلية الإيرانية في كربلاء العراقية ورجموها بالحجارة ورفعوا الأعلام العراقية على الجدار الخرساني الذي يحيط به وكتبوا عليه «كربلاء حرة حرة… إيران برة برة». يرفع هذا الشعارفي مدينة مقدسة لدى الشيعة، كما رفع في غيرها داخل العراق منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، غير أن في رفعه هناك وفي مدن الجنوب العراقي أهمية خاصة ودلالة عميقة لا تخطئها عين مراقب وبالتأكيد لا تخطئها عين المسؤولين الإيرانيين قطعا. يقال هذا الكلام في فضاء لطالما اعتبر حديقة خلفية لإيران بسطت فيها هيمنتها ونصّبت جماعتها في مراكز صنع القرار المحلي.
لم يحدث هذا في العراق وحده، بل في لبنان كذلك حيث ضاق الكثيرون ذرعا من الدور الإيراني الكبير والمتنامي عبر «حزب الله» الذي لم يتحرج أمينه العام من التصريح علنا بأن كل ميزانيته تأتي من طهران في وقت يتحدث هو فيه عن التدخلات الخارجية و«عملاء السفارات» في بلاده.
من حسن الحظ أن في لبنان لم يحدث ما حدث في العراق من وصول الأمور إلى حد اتهام عناصر إيرانية بأنها مشاركة في قتل المتظاهرين وقنصهم، ومن حظ العراق ولبنان معا أن الأحداث فيهما ليست في وارد أن تكون مماثلة لما جرى في سوريا من تدخل إيران العسكري إلى جانب النظام وجلبها لميليشيات طائفية تسندها من الجوار القريب والبعيد على حد سواء.
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 دخلت الأمور منعرجا نوعيا خطيرا. هنا لم تعد إيران متهمة بإزعاج الأنظمة والكيد لها، كما تقول أحيانا بعض العواصم العربية، بل ها هي تنزل بثقلها مع نظام الأسد ضد تطلعات شعبه في الحرية والكرامة. مثّل تدخل إيران العسكري المباشر في سوريا وانخراطه مع القوات النظامية، ليس فقط في محاربة الجماعات المسلحة بل أيضا في قمع الناس وقصفهم والتنكيل بهم، البداية الواضحة والفاقعة لوضع إيران نفسها في خانة الأنظمة ضد الشعوب العربية المظلومة والمتبرمة والمنتفضة لاحقا. هذا دون أن نشير إلى ما يتحدث عنه البعض من موجة شراء عقارات في العاصمة دمشق والرغبة في تغيير التركيبة السكانية الطائفية لعدد من الأحياء والمدن.
تصوير ثورة الناس على منظومة الفساد والفشل والطائفية على أنها أمر مفتعل ومدبر فيه من الاستخفاف بمعاناة هؤلاء والحط من كرامتهم الشيء الكثير
في العراق، سادت القناعة بأن الولايات المتحدة بعد غزوها لبلاد الرافدين سلمته لاحقا إلى إيران على طبق من ذهب، سواء بقرار واع مسبق أم بفعل الوقائع الموضوعية على الأرض. لم تقف طهران عند هذا الحد، ولم توظف هذه العلاقات في دفع جماعتها إلى تحسين مستوى حياة العراقيين وتنمية مناطقهم وتطوير اقتصادهم، بل بدت على العكس من ذلك وكأنها الغطاء الحديدي الذي يحمي هؤلاء ضد كل مساءلة لهم تتعلق بنهب المال العام والرشوة وتهريب الأموال المنهوبة إلى الخارج وكل أصناف الفساد التي تورط فيها المسؤولون الحكوميون والأحزاب الدينية المرتبطة بطهران. لهذا صبّ المتظاهرون جام غضبهم على إيران خلال المظاهرات كجزء أساسي من الغضب على مجمل الطبقة السياسية لأنهم رأوا أن إيران هي الراعي الرسمي لكل هؤلاء والحامي لهم في الداخل والخارج كذلك، بل وكان الشيعة العراقيون في طليعة هؤلاء الغاضبين لأنهم صُوّروا ظلما لسنوات وكأنهم مجرد طابور لها.
في لبنان، اختلف الأمر، هناك طرف سياسي، متمثل في حزب الله، هيمن على المشهد السياسي مستقويا بسلاحه وبات هو من يحدد إيقاع السياسة الداخلية والخارجية بتعاون من أطراف أخرى سواء بالمعنى المباشر أو بصمت العاجز عن تغيير الواقع، فيما بقي المعارضون متهمين من قبل هذا الحزب بأن معاداتهم له تكاد تعادل معاداة الوطن وموالاة إسرائيل. وحين خرجت المظاهرات الغاضبة في لبنان مطالبة بإزاحة الكل غير مستثنية زعيم «حزب الله»، «كلن يعني كلن.. ونصر الله واحد منهن»، بدا الأمر على أن المتمردين على رموز المسرح السياسي ما عادوا في وارد افتعال أي استثناء ولو كان تحت يافطة «المقاومة» وغير ذلك بعد أن ساد لديهم أن كل ذلك ما هو إلا استقواء داخلي لحساب إيران أكثر منه لأي شيء آخر.
زاد كل الطين السابق بلة حين كان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران يخرج، مع مسؤولين بارزين آخرين، بتلك التصريحات التي يعيد فيها غضبة العراقيين واللبنانيين إلى مؤامرات خارجية يشارك فيها هذا الطرف أو ذاك. من الوارد جدا أن تدخل أطراف متعددة على خط حراك هؤلاء في البلدين ولكن تصوير ثورة الناس على منظومة الفساد والفشل والطائفية على أنها أمر مفتعل ومدبر فيه من الاستخفاف بمعاناة هؤلاء والحط من كرامتهم الشيء الكثير.
هناك قول يتردد عن «الوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ» ويخشى تماما أن إيران أضاعت ذلك في ملفات الحراك العربي الطامح إلى التغيير، رغم تقدير الكثيرين في الساحة العربية لمواقفها الأخرى في ملفات عديدة خاصة الندية في التعامل مع الأطراف الدوليين وحرصها على استقلالية قرارها، ولكن هذا لا يبرر لها ذاك.
القدس العربي