حاولنا في مقالنا السابق «هل تنجح الصين في إقامة سوق عالمية للنفط» الإجابة على سؤال يطرحه الكثيرون حول العالم بخصوص مدى استطاعة الصين إقامة سوق عالمية للعقود الآجلة للنفط باليوان، وخلصنا إلى أن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم حاليا القادرة على تحمل دين عام بمئات الترليونات، وبالتالي خلق سوق مالية ضخمة تكون حافظة لسوق عالمية للنفط تضمن عدد لا محدود من الصفقات، وبورصة شنغهاي الصينية للعقود الآجلة قد تكون هي الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل التي ستقطعها العملة الصينية حتى تصبح تشكل خطرا على هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية خاصة هيمنته على تجارة السلع الإستراتيجية. لكن يبدو أن المملكة العربية السعودية تملك القرار الحاسم الذي قد يفضي إلى ترجيح كفة الميزان لصالح الصين في حرب البترو- يوان مقابل البترو - دولار المشتعلة.
السعودية بين التنين والكاوبوي
السعودية وعلى الرغم من كونها آخر دولة عربية اعترفت بالصين الشعبية يوليو 1990 ، إلا أن تطورا استثنائيا في العلاقات الاقتصادية بين البلدين خاصة تجارة النفط ميز هذه العلاقة، حيث أصبحت السعودية أكبر موردي النفط الخام للصين سنة 2004 ، وخلال سنة 2010 أصبحت الصين أكبر مستهلك للنفط في العالم، وبلغت حصة السعودية في سوقها النفطية آنذاك حوالي 19 في المئة، هذه الزيادة الهائلة في حجم واردات الصين من النفط الخام المستورد كانت بمثابة نقطة تحول في علاقتها مع موردي النفط الخام، والذين على رأسهم المملكة.
وفي يناير 2015 بدأت الصين السداد باليوان مقابل النفط الروسي، وعقدت اجتماعات، واتصالات ماراتونية مع المملكة توجت في نهاية سبتمبر 2016 بتوقع اتفاق يتم بموجبه التعامل بين البلدين بـاليوان الصيني، والريال السعودي في التعاملات التجارية؛ مما جعل المملكة تترنح بين مطرقة البترو - يوان ، وسندان البترو - دولار، فمن جهة المملكة تعتمد في أمنها، ومن ورائها أمن المنطقة الخليجية على أمريكا، وفي المقابل يوفر البترول العربي الغطاء النفطي لدعم الدولار الأمريكي حتى يبقى العملة الوحيدة المهيمنة على التجارة العالمية.
ومن جهة أخرى تسلل التنين الصيني إلى جميع قطاعات الاقتصاد السعودي أصبح يهدد المملكة في عقر دارها، فالصين تعد منذ 2011 أكبر شريك تجاري للسعودية، وخلال السنة المنصرمة بلغ حجم تبادل تجاري بين البلدين حوالي 49 مليار دولار، كما وقع البلدين على اتفاقيات تعاون تقدر قيمتها بحوالي 65 مليار دولار، ومؤخرا عرضت الصين شراء حوالي 5 في المئة من اسهم شركة أرامكو النفطية مباشرة، و هو ما قد يشكل عائدات للسعودية قد تصل إلى 100 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى وجود أكثر من 160 شركة مقاولات مملوكة للحكومة الصينية تزاول أعمالها في المملكة.
الضغوط الصينية والبديل عن النفط السعودي
انتهجت الصين أسلوب الترغيب والترهيب باعتدال مع المملكة، فمن جهة دخلت في شراكات اقتصادية ضخمة معها، وعرضت بسخاء نقل التكنولوجيا الصينية إليها، ومن جهة أخرى قامت بتنويع موردي النفط الخام مع زيادة حصة الدول المناوئة لنظام البترو_دولار، وتخفيض حصة السعودية التي تراجعت إلى المرتبة الثانية بينما قفزت روسيا إلى مرتبة أكبر موردي النفط الخام إلى الصين.
ومع نهاية السنة الماضية بدأت المملكة تسلك مسارا جديدا، المسار الذي أطلق عليه رئيس معهد أسواق وسياسة الطاقة التركي، الدكتور فولكان أوزدمير "تنظيف الرياض من معارضي نظام البترو- دولار"، وأعلنت في بداية أبريل الماضي عن رفع سعر البيع للخام العربي الخفيف إلى آسيا ليصبح بعلاوة قدرها 1.20 دولار للبرميل.
وجاء رد بكين سريعا، و قويا، حيث قامت بتخفيض مشترياتها من النفط السعودي بنسبة 40 في المئة، و أعلنت عن اكتشاف ثلاثة حقول نفطية ضخمة، هي : حقل هضبة تشينغهاي - التبت باحتياطي أكثر من 500 مليون طن، وحقل حوض جونغقار بإقليم شينجيانغ بإحتياطي يصل إلى 1 مليار طن، وحقل تشاوتشو في منغوليا الداخلية باحتياطيات تقدر بحوالي 30 مليون طن، و يبدو أن الضغوط الصينية على السعودية لم تقتصر على الجانب الإقتصادي بل طالت المجال السياسي، حيث تخلت الصين عن موقفها المعهود من من القضايا الحساسة عالميا "موقف بلا لون"، و أصبحت أقرب إلى المحور الإيراني في المنطقة.
الصين يمكنها تعويض حصة السعودية من وارداتها النفطية بزيادة حصص الدولة التي تبيع باليوان مثل روسيا، وأنجولا ، وفنزويلا، كما يمكنها زيادة الاعتماد على نفطها المستخرج من الحقول الجديدة المكتشفة، لكن سيكون من الصعب على المملكة إيجاد شريك تجاري أول مثل التنين الصيني.
وتبقى المشكلة الكبيرة التي ستواجهها السعودية، والمنطقة برمتها في المستقبل هي أن الصين لم تعد أكبر مستورد للنفط الخام عالميا فحسب، بل إن أمريكا قد تتحول في المستقبل القريب إلى منافس قوي للدول المصدرة للنفط، وتشير توقعات الوكالة الدولية للطاقة إلى أن حجم واردات الصين من النفط الخام سيرتفع إلى حوالي 10 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2023، عندها سيكون حجم واردات أمريكا حوالي 5 ملايين برميل فقط.
إن تبني السعودية، و دول "أوبك" الأخرى لنظام البترو - يوان في ظل تحول مركز الاقتصاد العالمي من الغرب نحو الشرق قد يخلق ظرفية جديدة تكسب الصين، والسعودية، و العرب من بعدها مزايا جيوسياسية كبيرة في النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب الذي بدأ يتشكل.