قد يكون الرأي العام العربي الأسرع في العالم على الإطلاق، بعد التركي طبعا، في التفاعل مع الانتخابات التركية الأخيرة وفوز أردوغان بالرئاسية، وتحالفه الانتخابي بالبرلمانية. وبما أن مواقع التواصل المختلفة هي التي باتت أسرع من يعكس أمزجة الناس وتوجهاتهم، فإن ما نشر من تعليقات في هذا الشأن، ثم من برامج ومقالات لم يخرج عموما عن أحد أمرين: فرحة عارمة بفوز أردوغان ممزوجة بشماتة في كل الحكام العرب الذين ناصبوه العداء وتمنوا فشله، مقابل استياء شديد لهذا الفوز مع تركيز على كل يوصف بأنه ديكتاتورية الرجل وحلمه العثماني.
المهللون لفوز أردوغان من العرب ركز كل منهم على ما يهمه في المقام الأول، سواء حميته في دفاعه عن الفلسطينيين لا سيما في قضية القدس مؤخرا وقبلها في غزة وملاسناته مع نتنياهو وجماعته، أو ما أظهره كذلك من تعامل إنساني خاص مع تدفق اللاجئين السوريين بمئات الآلاف إلى بلاده، أو جرأته في مخاطبة أوروبا والولايات المتحدة بما لا يتجاسر عليه أحد الآن، أو وقوفه مع قطر عنما أدار لهم أشقاؤها ظهر المجن. وبالنسبة لآخرين، فإن عداء كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحاكم أبو ظبي محمد بن زايد للرجل كفيل بألا يترك لكل معارض لأي منهم، أو لثلاثتهم في الغالب، من أبناء وطنهم أو خارجه، من شعور آخر غير التشفي في خيبتهم جميعا وهم يرونهم مجبرين على رؤية نجاح رجل لم يأت إلى الحكم بالوراثة أو على ظهر دبابة.
في المقابل، أبدى المستاؤون من فوز أردوغان من العرب وحزبه جملة من المشاعر المتداخلة، بعضهم تجاوز الحماسة لخصومه في هذه الانتخابات إلى التشكيك في صدقية نتائجها، آخرون لم يروا في وقوفه مع الفلسطينيين سوى متاجرة بآلامهم لأن علاقاته الاقتصادية وغيرها مع إسرائيل هي من يعتدّ بها لا المواقف العاطفية، آخرون رأوا فيه أحد أسباب خراب سوريا سواء بوقوفه مع المعارضة المسلحة ودعمها وتسهيل عبور الملتحقين بصفوفها وبصفوف الجهاديين المتطرفين أو بالتدخل المباشر في المعارك الجارية في الداخل السوري. كما أن هؤلاء المستائين من فوز أردوغان لم يغفروا له أبدا وقوفه مع موجات الربيع العربي، كما لم يغفروا له وقوفه إلى جانب الإسلاميين في مصر وليبيا وتونس وعدم اعترافه بالانقلاب الحاصل على الشرعية في مصر عام 2013 وإيواء كل ملاحق بسببه.
اللافت للانتباه أن قلة من الفرحين، ولا أحد من الحزانى تقريبا، همّـتــه كثيرا العملية الديمقراطية الشفافة التي جرت في تركيا وكيف أن صناديق الاقتراع هي من يحسم بين المشاريع المختلفة، وكيف أن المحافظة على رئيس أو إسقاطه، وعلى غلبة حزب حاكم أو فشله، إنما تُـمتحن شعبيا بجردة حساب للنجاحات والاخفاقات وليس الوعود والأماني. كما كان من المفارقات المستفزة أن يتحدث البعض بغيرة شديدة عما يراه ديمقراطية منتهكة في تركيا وحريات مهدورة، في حين أن بلده لم يشهد قط انتخابات في تاريخه أو أن حاكمه جاء بانقلاب عسكري. الفرحون عاطفيون وكذلك الحزانى وكلاهما نسي، أو تناسى، أن أردوغان رئيس تركي اختاره شعبه وأن ولاءه هو لبلده أولا وأخيرا ولا أحد يمكن أن يحمّــله مسؤولية النهوض بحال العرب التعيس، أو وزر خذلانهم.
المصيبة أن العرب لم يكونوا وحدهم في هذا التعامل المزاجي والانتقائي مع انتخابات تركيا. كثير من الإعلام الغربي سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا سعى إلى آخر لحظة إلى شيطنة الرجل بكل الوسائل، الصحيح منها والمهوّل والكاذب، غير عابئ بأهمية إجراء انتخابات ديمقراطية شفافة بشهادة المراقبين الدوليين واعتراف المنافسين الانتخابيين أنفسهم، رغم بعض ما ساقوه من هنات، مما يؤكد مرة أخرى أن الدول الغربية التي تتمتع بالديمقراطية منذ عقود لا تحبذ أن يتمتع بها غيرها إذا جاءت انتخاباتهم بما لا يشتهون، في حين أنهم مستعدون لقبول من يأتي بانقلاب وبأية آلية أخرى طالما هو مستعد لخدمة مشاريعهم، أو حتى مجرد الدوران في فلكهم، ولن يبكي أحد هنا على الديمقراطية، بل يوجد من هو مستعد لتلميعه وتسويقه، إنه النفاق بعينه.
ليس من السهل التعود على احترام نتائج أي انتخابات طالما تمكن فيها أي شعب من التعبير الحر عن نفسه، وتوفرت فيها أقصى ما يمكن من الضمانات، وفاز فيها من حصل على الأغلبية. وفي هذا المطب وقع كثيرون، لأنهم جميعا يريدون انتخابات على مقاسهم. إنه اتباع الهوى في السياسة.
القدس العربي