طربيّات الطرب والعلم

ياس خضير البياتي

لست ضد الشباب وطموحاتهم الجميلة، ولست ضد الطرب والمطربين، ولست ضد الغناء، فالعالم بدون الموسيقى الراقية صحراء جرداء لا حياة فيها ولاجمال، لكنني ضد ظاهرةِ أن يتحول الطرب الهزيل في أمة إلى ظاهرة اجتماعية سلبية تنهش الأمةَ فتكاً في قيمها الاجتماعية المتبقية، وتفسد ما تبقى من قيم الحياة ومباهجها الرصينة، وتجعل خريطة البشر تسير بالمقلوب، فيتسيد جهلة القوم جبهة الحياة أهميةً وحضوراً، وينزل رجال العلم والثقافة إلى قاع المجتمع. حتى يشعر المرء أن واقعنا العربي تحول إلى حفلة تنكرية يتم فيها تبادل الأدوار، وتخفى العيوب بمساحيق التجميل، وشد الوجوه وتنفيخ الشفاه، وتتغير دلالات النحو في لغته، فالفاعل منفعل، والمبتدأ خبر، والجار مجرور، والمفعول لأجله مفعول به، لأن المسألة في نهاية الأمر ليست فيما يعرض على السطح هو الواقع، فقد يخفي الرخام سخاماً كما يقال في الأمثال، لهذا علينا كما يقول المثل الفرنسي أن نكشط الفسيفساء كي يتضح لنا الطين وما يعشش تحته، وأن نختبر الطلاء كي يتضح الجوهر!

واقعنا اليوم يتسيد فيه صبيان الغناء حضوراً لافتاً بأغنية مريضة بفقر الجمال والحياء، ليصبح حديث الدول والاعلام والمجتمعات، وتفتح له أبواب الشهرة على مصراعيها ويدخل موسوعة (غينيس) في الثراء والقصور، بينما باحث عربي وأديب كبير وفنان ملتزم، يعيشون حياة الكفاف والفقر، لا يجدون لهم أحياناً تكلفة مراسم الدفن، لأن أفضل ما يحصل عليه المفكر العربي اليوم في هذه الدنيا بعد موته هو تلك الكلمة العابرة ذات المعنى العميق (مسكين)!
أعملوا استفتاءً بين شباب العرب، وخيروهم بين وظائف الهندسة والطب والذكاء الاصطناعي والرياضيات والغناء والرياضة، وستجدون كم تعيش هذه الأمة أزمة عميقة في الفكر، وناياتٍ شجيةً لا تكف عن الأنين. وهو واقع يذكرني بما تحدث عنه أندرسون الذي قال إن الامبراطور الذي تنافس الناس في وصف ثيابه الطاووسية هو عارٍ تماماً!

لقد اخترعنا فقهاً عربياً لا يقبل به منطق العصر، ولا حتى فقه الجاهلية هو فقه (تسطيح الحياة)، واستبدال قوانين التطور بقوانين التخلف، والرياضيات بالغناء، والذكاء الاصطناعي بكرة القدم، والأديب والباحث بالصبي المغني، والانتصارات العلمية الكبيرة بالانتصارات الصغيرة للمطربين الشباب الذي تساءل عنهم يوماً أديبنا الكبير الطيب الصالح: (من أين أتى هؤلاء؟). بل كدنا نغلف حياتنا بمساحيق التجميل لكي نؤسس فقهاً غريباً نغطي فيه عيوب الأمة، وقباحة الواقع المزري، وتفاهة ما يجري من تلميع لصور المجتمع ونماذجه البشرية. فمــــن لم يبصــــــر في حياته من الماء سوى بِركة آسنةٍ يتعذّر عليه أن يتخيل محيطاً متلاطم الأمواج!

صحيح أن ما يجري اليوم، هو انعكاس لمشكلة أكبر، وقضية أعمق، لكنها هي جزء من صناعتنا الوطنية التي تشارك بتهديم ما تبقى من قيم هذه الأمة وتطلعاتها، وتشويه أحلام الشباب الغارق في الفقر والاضطهاد السياسي والمجتمعي، واستغلال لطموحاتهم الصغيرة التي كانوا يحلمون بها، ويقارنونها بالآخر. فالفضائيات اليوم تبيع (لحما مستوردا) وكأنه (وطني مذبوح على الطريقة الإسلامية)، من أجل الحصول على ملايين الدولارات، وتستنزف طاقات شباب عاطل ومقهور بأحلام وردية يريد الظفر بحياة رغيدة ومبهرة بأسهل الطرق، فأغنية واحدة قد تجعل منه نجماً عربياً فوق العادة، وتفتح له مطارات العرب، ويتجمهر الناس بالآلاف لاستقباله كفاتح كبير، بل تمهد له الفرصة للجلوس مع الرؤساء والوزراء، حتى تتخيل أن ما يحدث زلزال كبير في الدول!
انظروا لفضائيات المال والبهرجة، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، كيف ساهمت في تعميق ثقافة النجومية الزائفة والفردية المريضة، وحب المال الرخيص، لأن شركات البهرجة وصناعة النجوم المزيفة لا تصنع مشاهدَ افتراضية حقيقية، بل تنظم صراعاً للديكة فيه قتال باللحم الحي، غير أن منظم النزال لا يفقد ريشاً ولا لحماً، هو مستمتع والعالم المتفرّج يشجّع هذا الديك أو ذاك حسب اصطفافه. أمّا الديكة فهي لا تدري أن دمها يدرّ أرباحاً على المستفيدين.
أليس مخجلاً على هذه الأمة أن تضع مفكريها وأدباءَها ومخترعيها وباحثيها في آخر مقاعد القاعة، بينما يجلس فرخ ولد لتوه في المقاعد الأمامية محاطاً بالمسؤولين، وبهالة الحمايات، وكاميرات الإعلام المنافقة! يا لَبُؤس الأوطان أن يتصدر المشهد العربي اليوم مطربٌ ينشر بذاءات الشوارع الخلفية، وأمراض المجتمع، ويتنقل بطائرات خاصة، ونخبنا الثقافية والعلمية تعيش غيبوبة الذل والمهانة والإهمال وفقر الحال، هل نذكر من مات على فراش الموت ولم يجد من الحكومات من ينقذه من المرض، ومن مات ولم يجد من يسير وراءه حتى ولو من باب الحسنات!

أليس عيباً أن نرى هذه النخب مشردة في بقاع العالم تبحث لها عن الخبز والأمان والحرية، وما تبقى منهم في أوطانهم يصارعون العوز والاضطهادَ والتهديدَ والموت! هل من الإنصاف أن تُجتثَّ النخبَ لأنها تؤمن بفكر يتعارض مع الآخر، فتُقطعَ موارد معيشتهم، أو يهددوا بالنفي الإجباري تحت سلاح التهديد بالموت! ماذا حل بهذه الأمة التي كانت في الخمسينيات والستينيات، تتباهى بنخبها، فكان العراقي يُنسبُ إلى بلد حمورابي والجواهري والبياتي وجواد سليم وناظم الغزالي، والمصري ينسب إلى بلد عبد الناصر ونجيب محفوظ وطه حسين وأم كلثوم، والجزائري إلى بن بله والمليون شهيد! كم أشعر بالحزن العميق كعراقي أنني أنتسب اليوم إلى (فرخ) ولد لتوه، وهو من صنع أنابيب التلقيح الصناعي، ويقول لي أحدهم أنك من بلد الفرخ الفلاني!
يا لَبؤس أوطاننا أن تجعل مطرباً ولد لتوّه دمر أحلام الشباب بالقبح والجهل، زعيماً لأمة غارقة بمفرقعات الحياة السطحية، أكثر أهمية من مفكر صنع لنا العقل السليم والحياة والجمال، بل وصدقت مستغانمي عندما قالت إن أوطاننا تهتم بمؤخرة فنانة عربية أكثر من اهتمامها بمقدمة ابن خلدون!
يا لَبؤس الأوطان المهزومة!

*أكاديمي وكاتب صحافي عراقي، رأس تحرير أكثر من مجلة وصحيفة عراقية، يحمل لقب الأستاذية منذ عام 1994، وله 26 كتاباً في الإعلام والاجتماع، ترأس عدداً من عمادات كليات الإعلام، عضو استشاري لعدد من المجلات العلمية المحكمة في الوطن العربي والعالم، كاتب أسبوعي لعدد من الصحف العراقية والعربية، عضو نقابة الصحفيين العراقيين والعرب والاتحاد الدولي للصحفيين.

نقلا عن إيلاف

ثلاثاء, 13/10/2020 - 14:38