العناوين والشعارات!

خالد الفاظل

في أحد أعوام الجامعة؛ حضرت حفلا متضخم الشعارات والأضواء، من تلك الحفلات البهيجة للغاية التي يستحي من صعود منصاتها المتوثبة؛ من كان مخزونه المعرفي ضحلا ولسانه غير متمرس على فن الخطابة. وبمقدوره أن يطعم عواطف الجماهير أوهاما مريحة تجعل أيديهم تصفق بحماس وعقولهم تنام من شدة الخمول..

كان الفصل أيامها "ربيعا" في بلاد لم يترك مناخها الحار والجاف حيزا زمنيا بين الشتاء والصيف يجلس فيه فصل الربيع لبعض الوقت. كان خطاب التنحي للرئيس حسني مبارك ليلتها خبرا عاجلا. وكنت أنا طالبا أقف بالصفوف الخلفية للجماهير تجنبا لتزاحم المناكب والاختناق بذرات الهواء المشبعة بروائح العطور الجيدة والرديئة. وقفت بهدوء مستمعا لما يقال، حتى أخذ مكبر الصوت شاب لا أعرفه يومها! رغم أنه كان معروفا في عالم النضال والسياسة والإعلام! لا أعرفه نظرا لعدم إهتمامي بعالم السياسة أيامها! وإن تزايد الاهتمام بها بشكل طفيف نظرا لأنها المشكاة التي يخرج منها غالبا من يتولون مصالح الناس..

كان الشاب الأنيق القادم من جامعات أوروبا؛ ضليعا في الخطابة وتوصيل الأفكار ومثقفا وحماسيا ومفعما بحب الوطن، وكارها للاستبداد والفساد، وحالما بتشييد دولة المساواة والعدالة، وأظهر في خطابه طاقة نظرية من التعمير والجدية والوطنية تحتاجها الدولة. جراء الفضول والإعجاب بالشاب تطاولت وأنا في الخلف؛ حتى أصبحت نظراتي محلقة فوق رؤوس الجماهير مثل طيور تفتش عن الماء في صحراء متباعدة الأطراف، تمكنت أخيرا من مشاهدة الشاب المثقف(المخلص المنتظر)...

قلت في نفسي: "بمثل هذا الشاب سيتقدم الوطن"، ثم تمنيت في سري أن يصل الشاب بسلام إلى مراكز صنع القرار حتى يطبق أفكاره ويساهم في النهوض بالتنمية وتضييق الخناق أكثر على الفساد والمحسوبية..

دارت الأيام وأصبح الشاب موظفا ساميا بالدولة، وأصبح خبر تعيينه هنا وهناك؛ مألوفا في بيانات مجلس الوزراء يوم الخميس. بيد أن الصدمة تملكتني عندما رأيته يبالغ في التملق للنظام بشكل مقزز ومبتذل جدا، وكم كانت الصدمة أكبر بكثير عندما ظهرت شبهات فساد من خلال تسييره..

من أيامها أصبحت لدي فوبيا من الشعارات، وأي شخص لم أجربه في المعاملات أو أسمع شهادة عدول جربوه فيها؛ لا أثق أبدا في كلامه حتى ولو ألف لي من الكلام الساحر ملحمة أعظم وأضخم من ملحمة جلجامش. وهذا ينطبق على جميع المعاملات الأخرى؛ سواء في التجارة أو السياسة أو الخدمات أو العلاقات الاجتماعية، المحك دائما يجب أن يكون الأفعال لا الأقوال..

على ذكر العناوين والشعارات؛ حكى لي صديق، بأنه ذات يوم بالعاصمة نواكشوط؛ مر بمبنى فخم وعليه لافته مكتوب عليها "المصلحة الفلانية" فدخل يقوده الفضول ليعرف ماذا يفعلون بالضبط؛ فوجد بوابا متناعسا وسكرتيرة أكثر فراغا وفتورا من حراس منازل "تفرغ زينة" ومديرا يصل الدوام بتكاسل، وكراء باهظ وميزانية مهدرة دون تقديم أي محتوى تنموي جاد!

هذا المساء وأنا أمر من أحد شوارع العيون، صادفتني اللافتة الظاهرة في الصورة، وودت الدخول على المصلحة التابعة لها إن كانت موجودة. وليس هدفي طبعا معرفة ماذا يفعلون مثل صديقي، فقط ليشرحوا لي "مضامين اللافتة" حتى أفهمها رغم أنها مكتوبة بخط واضح جدا. الغريب أنني في الأعوام الماضية كنت أمر بمرفق قرب جثة شركة "سونمكس" المفيدة للمواطن مكتوب على لافتته "كذا الصرف الصحي بلعيون" والحقيقة أنه لا يوجد في المدينة من شبكات الصرف الصحي سوى البطحاء التي تجرف كل خريف الأحزان التنموية للمدينة إلى مستنقع مائي خارجها يقال له "أمحيكم متورجه".

مشكلتنا أن العناوين والشعارات دائما متضخمة ومنفوخة، لكن المحتوى يرثى له للأسف الشديد. نخبتنا السياسية وحكوماتنا يبدعون دائما في تضخيم الشعارات التنموية والوطنية؛ لكنهم يخيبون أمل المواطن دائما عندما يدخلون في التفاصيل الجادة لصناعة المحتوى المفيد..

الساعة 23:04 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

     

خميس, 15/10/2020 - 18:23