رحل ترامب فهل ترحل الأزمة؟

يحيى مصطفى كامل

أكاد أجزم أن أي انتخاباتٍ في العالم لا ولم تحظ بالاهتمام والمتابعة والمراقبة، والتعليق ومحاولات القراءة في النتيجة التي تشكلت على بضعة أيامٍ، كالانتخابات الأمريكية، ولئن كان هذا يسري على الكوكب برمته، فإنه ينطبق بصورةٍ خاصة على منطقتنا، وربما لحقت بها تلك البلدان والبؤر الغارقة في الأزمات والحروب الأهلية، حيث للولايات المتحدة دورٌ (كثيراً ما يكون رئيسياً ومؤسساً) في الصراع وإدارته، وربما حضورٌ عسكريٌ كثيف، سابق أو حالي.
ولا يرجع هذا الاهتمام لمجرد تأثير واشنطن في القرار السياسي، ومن ثم النشاط الاقتصادي والعلاقات والترتيبات بين دولنا في محيطها، بل نظراً للاختلاف في نهج التعامل مع أنظمتنا المزمنة، القمعية في المجمل على اختلاف الدرجة، بين إدارةٍ وأخرى، ومقدار ما تمارسه كل إدارةٍ من ضغطٍ أو عدمه، على ضرورة الإصلاح والانفتاح السياسي، وملف المعتقلين وحقوق الإنسان.
كم كان طريفاً بقدر ما هو مؤسف، أن نشاهد المواطنين في بلدٍ كمصر يختلفون ويتجادلون على رئيس أمريكا المقبل، فنرى من يطلبون من الله بقاء ترامب نظراً لتصورٍ (لا يجانب الحقيقة في واقع الأمر) بأنه داعمٌ للسيسي، أي أنه لا يكترث البتة بملف حقوق الإنسان، ما فُسر من قبل النظام كونه ضوءاً أخضر، بإطلاق اليد في معارضيه؛ وفي المقابل ترى أولئك الذين تمنوا فوز بايدن، لما قد يجلبه في جعبته من لجمٍ لهذه الأنظمة، ومنها النظام المصري بالتأكيد، ولو من قبيل الابتزاز السياسي، من منطلق رب ضارةٍ نافعة، وأن مكسباً من أي نوع قد يؤدي إلى شيءٍ من البراح، أفضل من لا شيء. وفي جميع الأحوال فإن كلا الموقفين يشهدان بما وصلنا إليه، ووصلت إليه أحلامنا وأحلام أبائنا، ممن عاصروا النضال من أجل التحرر من الاستعمار من بؤس، حيث لم يعد الإنسان أوالمواطن يساوي الشيء الكثير ما لم يتدخل بالنيابة عنه رئيسٌ أمريكي، أو ضجت في شأنه منظمات حقوق إنسانٍ عديدة. المهم في هذا السياق وعلى المدى البعيد أن نسأل أنفسنا: هل هزيمة ترامب الانتخابية ساحقة ومدوية؟ هل بهزيمته «انتصر الحق» وقيم الحرية والمساواة إلخ؟ هل ستنجلي وتتبخر مشاعر العداء للأجانب والمسلمين على سبيل المثال؟ للأسف، فالإجابة في المجمل بالنفي.

ترامب هو التجلي والتجسيد لسقمٍ وأزمةٍ عميقتين في الديمقراطيات الليبرالية الغربية ونظامها الرأسمالي

لكي لا أبدو سلبياً، فمن المؤكد أنه بمقدورنا أن نرى في هزيمته إنجازاً كلل مجهوداً متعاظماً خلال سني رئاسته الأربع، من قبل يسار الحزب الديمقراطي، والحركات المعارضة من قبيل «حياة السود تهم» كما نستطيع أن ندلل على الجدوى من العمل والحراك المدنيين بغض النظر عن الميئسين والمثبطين، وقبل هذا وذاك فمن المؤكد أن شخصاً متزناً بصفةٍ عامة كبايدن، من الأرجح أنه سوف يراعي قواعد اللعبة وتوازناتها ومن ثم يمكن التنبؤ بتحركاته، ولن يوقظنا فجراً بتغريدةٍ مزعجة أو مخيفة، لكن في المقابل، فإن ترامب المزعج الأرعن المندفع، خرج لانتخابه ما يزيد على الاثنين وسبعين مليوناً، في حين أنه نجح بما يقارب الثلاثة وستين منذ أربعة أعوام، أي أن كل ما قد نتصوره كفيل لصرف الناخب الأمريكي عنه من مآخذ وتحفظاتٍ، وسوء أداءٍ أثناء وباء كورونا، لم يقلل من شعبيته، بل العكس هو الصحيح تماماً، بل الملاحظ أننا ما زلنا نتحدث عنهظ، ونتحسب ردة فعله وناخبيه، ربما بقدرٍ يزيد عن بايدن المنتخب فعلاً، وما جل ذلك الموقف في رأيي، سوى لأن الغالبية العظمى من معارضيه حول العالم يخافون مما يمثله، ويودون أن يتصورا، أو يوهموا أنفسهم على الأقل بأن ذلك سينتهي برحيله عن البيت الأبيض.
فمن هو ترامب؟ أهو مجرد مهرج ثري سوقي وفظ، جرب حظه في مشاريع وبرامج إعلامية عديدة؟ بالطبع لا. كثيراً ما وُصف بالشعبوي، في حقبةٍ شهدت ولم تزل صعود نماذج عديدةٍ منها في البرازيل وروسيا وتركيا، على سبيل المثال، فماذا يعني ذلك؟
إن ترامب هو التجلي والتجسيد لسقمٍ وأزمةٍ عميقتين في الديمقراطيات الليبرالية الغربية ونظامها الرأسمالي، ويكفي النظر في قاعدة ناخبيه ودوافعهم لنرى ذلك. ثمة عوامل ومؤثراتٌ عديدة ما بين الاقتصادي والاجتماعي والهوياتي، أفرزت هذه الظاهرة.
من المعروف جيداً الآن أن فترة الرواج والانتعاش المديدة، التي عرفها الغرب، خاصةً الولايات المتحدة انتهت مع أزمة البترول، التي صاحبت وأعقبت حرب 1973، ومن بعدها لم تتوقف الأزمات، ما دفع إلى إصلاحات هيكليةٍ ترتب عليها في نهاية المطاف ترحيل ونزوح صناعاتٍ بأسرها إلى الشرق الآسيوي، حيث اليد العاملة الوفيرة والأرخص؛ في المحصلة فإن الأمريكيين، البيض في جلهم، الذين فقدوا وظائفهم صاروا يشغلون ما صار يعرف بـ»حزام الصدأ». شيئاً فشيئاً ومع توافد المهاجرين زاد على مشاكلهم الاقتصادية شعورهم بأن التكوين العرقي تبدل، بحيث لم يعد البيض الأنغلوساكسون هم المكون الساحق، إن لم يكن الوحيد. كل ذلك أفرز سخطاً وغضباً وإحباطاً كان يبحث عن تعبيرٍ له، يضاف إليه شعورٌ لم ين يتعمق بأن «المؤسسة» بحزبيها التقليديين وسياسييها المحترفين، لم تعد تمثلهم ولا تعبر عنهم، حتى جاء ذلك الشعبوي عالي الصوت، الذي وإن كان جهولاً، فإنه لم يزل ينطلق من تصوراتٍ وأفكارٍ سائدة في المجتمع، أسهم فيها ضمن ما أسهم اللاهوت البروتستانتي، وجناحه المتصهين، أفكارٌ غُرست فأثمرت في وسط فئاتٍ وولاياتٍ تعصف بها حالة سيولةٍ، وتشهد متغيراتٍ اقتصادية ترجها، ما أفرز غضباً وحنقاً منفجرين، كما أنه نتيجةً لذلك الوعي ولهزائم محاولات التنظيمات والفكر الاشتراكي في أمريكا، فقد ذاب الوعي الطبقي لدى طبقاتٍ عاملة، في تصورٍ ساذجٍ بأن ذلك الثري الملياردير خير من يمثلهم، وعوضاً عن الصراع الطبقي الاجتماعي والاقتصادي، صرنا نشهد صراع هويات، غير ملتفتين إلى أنها هوياتٌ غذتها متغيراتٌ اقتصادية وما نتج عنها من عدم استقرارٍ وخوفٌ من المستقبل في المقام الأول.
نحن لم نزل أيضاً أمام تصورين للذات في أمريكا: بين من يرونها أولاً، وفي الأساس، بلد المهاجرين البيض البروتستانت وديمقراطيتهم، أي الخاصة بهم، وأولئك الذين يؤمنون بالحلم الأمريكي أي بلد المهاجرين، من دون تحديد بوعود الحرية والحياة المادية الأفضل، وقبل كل ذلك الاندماج وديمقراطيةٍ تشمل الجميع. لذا فلنا أن نسأل: هل سترحل الشعبوية ويُحسم الصراع برحيل ترامب؟ للأسف لا أجد بداً من الإجابة بالنفي. إن فوز بايدن ربما شكل اعتراضاً على ترامب، وما يمثله في المقام الأول، إلا أن الأصوات التي حصل عليها المرشحان تؤكد عمق حالة لانقسام؛ المهم في هذا السياق أن تُرى هذه النتيجة كمحصلةٍ حراكٍ مدني وسياسي، في عمليةٍ مستمرة في شتى أرجاء العالم للتحرر من عبودية رأس المال، وما تنتجه من إشكالياتٍ وصراعاتٍ، لا مجرد فصل الختام في حياةٍ مغامرٍ مهرج جرب حظه في لعبة السياسة.
القدس العربي

سبت, 14/11/2020 - 10:00