عام جديد تعكره نزعات الانفصال والوباء

سعيد الشهابي

سبعة واربعون عاما من التلاحم البريطاني – الأوروبي انتهت رسميا بتوقيع اتفاقية بين الطرفين الأسبوع الماضي. جاء ذلك بعد اربعة اعوام ونصف من تصويت البريطانيين بأغلبية صغيرة للخروج من الاتحاد الأوروبي لتبدأ نهاية مسيرة استمرت منذ انضمام المملكة المتحدة للمجموعة الاقتصادية الأوروبية في العام 1973. وخلال هذه الحقبة توحدت اوروبا بشكل شبه كامل.

بدأ ذلك المشوار بعضوية ست دول مؤسسة هي المانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ، ثم انضمت لها دول أخرى حتى أصبح العدد 15 دولة. وفي العام 2004 انضمت عشر دول اخرى أغلبها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي حتى بلغ العدد النهائي للاتحاد 28 عضوا قبل انسحاب

بريطانيا. وقد كانت مفاوضات الطلاق صعبة جدا لأن كلا الطرفين يسعيان لضمان مصالحهما ضمن اتفاقية الخروج الذي اصطلح على تسميته «بريكسيت». وكانت أهم القضايا الخلافية مرتبطة بالاقتصاد والتجارة والحدود. وزاد الأمور تعقيدا وضع جمهورية إيرلندا نظرا لعلاقاتها التاريخية مع

بريطانيا والوجود البريطاني في القسم الشمالي من الجزيرة الايرلندية. وكان رئيس الوزراء البريطاني الحالي، بوريس جونسون، الذي قاد حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي حريصا على التوصل لاتفاق ينظم الخروج وما يليه من علاقات، ولكنه واجه موقفا اوروبيا شديدا كاد يلغي التوصل للاتفاق.

ولم يكن ذلك ممكنا الا بعد ان قدمت بريطانيا تنازلات عديدة خصوصا حول حصص صيد الأسماك.

 

 يطل العام الميلادي الجديد بمشاعر متباينة لدى الشعوب، بين الأمل والتذمر، والصراع المحتدم بين دعاة والوحدة والفرقة. في عالم مضطرب أصبح من الضرورة بمكان إحداث هزات داخلية فاعلة لإعادة التوازن للتفكير البشري

القرار البريطاني بفك الارتباط بالاتحاد الأوروبي كان مفاجئا برغم وجود أصوات تطالب به منذ عقود. ولم يكن رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون الذي تعهد باجراء استفتاء حول ذلك في لائحته الانتخابية يظن ان التصويت سيقر الخروج، ولذلك ما ان ظهرت نتائجه بفارق ضئيل لصالح الخروج حتى

استقال من منصبه، وعين حزب المحافظين الحاكم السيدة تيريزا ماي رئيسة للوزراء بدلا عنه. ولكنها وجدت نفسها مضطرة لاجراء انتخابات برلمانية جديدة فاز فيها بوريس جونسون ليكمل مشوار الخروج. وبرغم التوصل لاتفاق رسمي بين الطرفين، فهناك على طرفي المعادلة مشاعر بالاسف لما

حدث. وعلى الجانب البريطاني ثمة شعور واسع بالاحباط لدى دعاة الوحدة من جهة، ولدى الأقاليم التي تشكل «المملكة المتحدة» من جهة اخرى. فالاسكتلانديون يفضلون عضوية الاتحاد الأوروبي وبدأت اصوات بعضهم تتصاعد مطالبة بانفصال اقليمهم عن المملكة المتحدة لكي تتسنى لهم فرصة

الانضمام للاتحاد الأوروبي. وثمة مشاعر متشابهة لدى سكان مقاطعة «ويلز». وفيما تسعى الحكومة المركزية لمنح الاقاليم صلاحيات ادارية واسعة فهناك شعور عام لدى الأطراف بعدم إشراكها في منظومة الحكم بشكل يناسب حجمها. ايا كان الحال فان شعار «معًا أفضل» الذي استخدم من قبل

الحكومة لاقناع الاسكتلانديين بعدم التصويت لصالح الاستقلال أصبح شعارا يرفعه الاسكتلانديون أنفسهم ، اذ يصرون ان البقاء ضمن الاتحاد افضل من الانفصال. ويتوقع تصاعد النزعة الانفصالية لدى سكان الاقاليم البريطانية خصوصا اسكوتلاندا وايرلندا الشمالية وويلز.

وبرغم توقيع الاتفاقية الأوروبية – البريطانية فان مرحلة ما بعد الانفصال ستنطوي على صعوبات جمة خصوصا على صعيد التحالفات الدولية من قبل الطرفين. فماذا سيكون الموقف البريطاني من الاتفاقية التي أصبحت جاهزة للتوقيع بين الاتحاد الأوروبي والصين؟ مروّجو تلك الاتفاقية يقولون

انها ستصب في مصلحة اوروبا والصين والعالم وحتى امريكا. بينما لا ترى واشنطن ذلك، بل تسعى لمنع حصول الصين على تكنولوجيا متطورة واحتواء التوسع الاقتصادي الصيني، وتسعى لتكوين تحالف ضد الصين تشارك فيه اوروبا والدول الآسيوية كالهند واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا.

وقد مارس فريق جو بايدن في بروكسل ضغوطا لمنع تمرير الاتفاقية التي هرع القادة الأوروبيون لتمريرها قبل ان يستلم بايدن الرئاسة هذا الشهر لكي يضعوا امريكا امام الامر الواقع. ولا يتوقع ان تكون لدى جو بايدن منحى آخر. فأين سيكون الموقف البريطاني من هذا الصراع الذي يتوسع

باضطراد؟ فبرغم انها لم ترضخ لضغوط دائرة ترامب لمنع تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) الصينية الا ان خروجها من الاتحاد الأوروبي سيجعلها اكثر ميلا لاستعادة «العلاقة الخاصة» مع امريكا. وليس مستبعدا ان تحدث تشنجات في العلاقة مع حلفائها السابقين في اوروبا حول قضايا الاقتصاد

والعلاقات الخارجية خصوصا دول مجلس التعاون، وكذلك حول قضايا حقوق الانسان التي ستحاصر بريطانيا لاسباب عديدة. هذا في الوقت الذي ما يزال الوباء يفرض نفسه على العالم ويتطلب جهودا مشتركة وعودة المجتمع البشري الى الثوابت الإنسانية بعيدا عن التلوث السياسي.

السؤال هنا يدور حول مدى واقعية الحديث عن مفاهيم الوحدة والائتلاف والتحالف بين الدول في عالم تتجه مكوناته السياسية نحو الانفصال والتشرذم. ولا شك ان اثارة مقولات الخصوصية الثقافية او التباين العرقي او التميز الديني من شأنها تعميق النزعات الانفصالية. فهذا مجلس التعاون الخليجي

يعاني من حالة التصدع التي تجتاحه بسبب نزعة بعض زعمائه للهيمنة المطلقة وتقزيم الدول الاخرى. وقد وجهت السعودية ضربة موجعة للكيان الخليجي الذي يفترض ان يحتفي هذا العام بمرور اربعين عاما على تأسيسه. ويستبعد عودة المجلس الى سابق عهده من حيث العلاقات الوطيدة بين

زعماء دوله من جهة وتباين تحالفاتهم الاقليمية من جهة اخرى. النزعة للانفصال ظاهرة مزعجة تقلق دعاة الوحدة في هذا العالم. هذه النزعة استغلت من قبل حكام الإمارات مثلا لدفع زعماء اليمن الجنوبي للمطالبة بالانفصال عن اليمن، الدولة الكبيرة في جنوب الجزيرة العربية التي اعتبرتها

السعودية في السابق منافسا اقليميا، وسعت لاضعافها بالحرب المستمرة منذ ستة اعوام. ومن المؤكد ان اثارة النعرات العرقية او القومية او الدينية من شأنها أن تؤدي لتصدع الكيانات السياسية بدون رحمة. فالاكراد الموزعون على اربع دول: ايران والعراق وسوريا وتركيا، يتطلعون للانفصال عن

هذه البلدان واقامة دولتهم الخاصة بهم. كما ان الشعور بالخصوصية العرقية من الأسباب التي تؤجج الاوضاع في الشمال الافريقي بين العرب والامازيق. وليس بعيدا عن الذاكرة تقسيم السودان الى شمال يقطنه المسلمون وجنوب تقطنه اغلبية مسيحية، مع ان هذه التجربة لم تحقق النجاح الذي كان

قادتها يتطلعون اليه. وكان تقسيم السودان حدثا مفزعا لدعاة الوحدة والحريصين على سلامة الاوطان في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن سياسات الجيل الحالي من الحكام، بالاضافة لانماط الحكم الاستبدادية في المنطقة من العوامل المشجعة على التقسيم والانفصال. وما يزال شبح التقسيم يهدد امن

العديد من دول المنطقة ومنها العراق وسوريا. وكادت ليبيا نفسها تتقسم بسبب الطموحات الشخصية لدى بعض قادتها مثل الجنرال حفتر المدعوم من الإمارات. ولا تقتصر نزعات الانفصال على العالمين العربي والاسلامي بل انها ظاهرة مقلقة في مناطق عديدة من العالم. ألا يتطلع قطاع كبير من

الاسكتلانديين للاستقلال والانفصال عن الامم المتحدة؟ ألا يسعى سكان اقليم الباسك في اسبانيا للانفصال؟ ألم تخرج المظاهرات ويعتقل النشطاء بسبب النزعة الانفصالية؟ ومن اجل الموضوعية تجدر الاشارة الى ان ما يسمى «الانفصال» يعتبره المطالبون به «استقلالا».

وهكذا يطل العام الميلادي الجديد بمشاعر متباينة لدى الشعوب، بين الأمل والتذمر، والصراع المحتدم بين دعاة والوحدة والفرقة. في عالم مضطرب أصبح من الضرورة بمكان إحداث هزات داخلية فاعلة لاعادة التوازن للتفكير البشري لكي يصبح أكثر ميلا لقيم التعاون والتقارب والتمازج والتبادل الثقافي والعلمي والتوحد ما امكن، بدلا من قيم الانانية والجشع والاستغلال التي تؤسس للخلاف والعداء والحرب.

القدس العربي

اثنين, 04/01/2021 - 12:52