من طرائف نكت الأمير عبد الرحمن ولد اسويد أحمد

الطيب ولد سيد أحمد

يحكى عن أمير تكانت البارز عبد الرحمن ولد بكار ولد اسويد احمد ـ تغمدهم الله برحمته وأدخلهم فسيح جناته ـ أنه سأل جلساءه بعد ما تقدم به العمر عن كلمة صار الناس يكثرون من استعمالها لم يكن يعرفها من قبل ؛ قالوا : ما هي ؟ قال : السياسة السياسة السياسة ....... قالوا: إنها (أبلتيك) .

فقال [ذيك اص اخباريين فيه]  أو هكذا يحكى.

ومعلوم أن الأمير كان قد استشعر هم الجماعة منذ نعومة أظافره ولما يتسلم بعد مقاليد الإمارة وقد مر بمرحلة جندية في بواكير عهد الاستعمار ربما اكسبته تمرسا وخبرة في التعامل معه وزودته بخلفية عن القوانين والنظم التي توجه وتحكم سلوك المستعمر؛ ولذا كان قد تعامل معه بدهاء وحنكة طيلة وجوده في هذه البلد؛ محاولا بشتى السبل انتزاع ما يمكن انتزاعه منه من امتيازات دون أن يصل به ذلك إلى الصدام معه لغياب الحكمة في ذلك ؛ وذلك كان هو مبلغ الجهد يومئذ .

..................................      وليس يلام المرء في مبلغ الجهد
أما وقد رحل الاستعمار غير مأسوف عليه واستعادت البلد استقلالها وهويتها وأصبحت تتداول لغتها الأم فهل صارت كلمة (سياسة) مفهومه كما ينبغي؟

لعلنا في سبيل التحري عن ذلك نحتاج الإبحار في معاجم اللغة العربية القديمة لتحديد أو تقريب المعنى الوضعي أصالة لهذه الكلمة وكيف تطورت عبر الاستعمال حتى آلت إلى ما هي عليه الآن ؛ حيث ملأت الدنيا وشغلت الناس .

 معجم لسان العرب مادة : سوس بتصرف .

سوس : السوس والساس لغتان : العثة التي تكون في الطعام .

الكسائي ساس الطعام يساس ...إذا وقع فيه السوس(والسوس حركة تدخل الحبوب والثمار بالتقادم) .....

ــ والسوس الرئاسة ؛ يقال : ساسهم سوسا .

ـ وإذا رأسوه قـيـل سوسوه وأساسه .

ــ وساس الأمر سياسة : قام به .

ـ ورجل ساس ؛ من قوم ساسة وسُواس .

ـ وسوسه القوم : جعلوه يسوسهم ويقال : سُـوّس فلان أمر بني فلان أي كلف سياستهم

·       والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه .

فهل هكذا فهم أميرنا من كلمة سياسة لدى ترجمتها ب(أبلتيك) ؟ وإلى أي حد ينطبق هذا المفهوم على الممارسة السياسية التي تعرفها المجتمعات اليوم ؟

لا جرم أن الفكر السياسي بات علما مكتمل الأركان له أصوله وفروعه وقواعده ونظرياته ودراساته ولعله من أرقي العلوم الإنسانية الأرضية التي لا يوجه إليها إلا الخواص النابهون، لكنه يبقي في واد والممارسة السياسية الشائعة في واد حتى في البلاد التي تصنف قدوة فيها .

والسياسات التي تعرفها أوطاننا اليوم على الأقل هي في الغالب عبارة عن ممارسات شوهاء عشوى تحاك مؤامراتها في فضاءات ملوثة بغبار الفساد ودسائس المستعمر وضغوط الوصاية الخارجية؛ تعرج فيها مكونات طيف سياسي مترهل: منها الظالم لنفسه ومنها المقتصد ومنها ولا شك السابق بالخيرات بإذن الله ؛ لكن الواقع أن ليس لهذه الفعاليات من الأمر إلا بقدر ما لها من ولاء للحاكم وملـئه؛ وبما يقتضيه تحضير المشهد المزمع .

وبيناهى تصطرع تارة وتتنابز بالألقاب أخرى أو تتنافس في تقديم الولاء للقائم بالأمر إذا بفارس جديد يعتلي صهوة الحكم بترتيب من وراء أظهر الجميع، إما عبر سلم وراثة أو زحفا على ظهر دبابة ؛ أو صفقات شراء ذمم ؛ أو بحظ تأتيه الخلافة منقادة.

وفي كل الأحوال ترى الناس يتفاعلون مع الحدث الجديد بروح رياضية بل أكثر من ذلك ترى الكل يدعى أنه صاحب الفضل والمنة فيما حصل وأنه وحده السند الكفيل بصيانة المكسب ؛ سبحان من (( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) .

أليس الأحرى بالحكام ــ وهم يواكبون صيرورة الأحداث ويدركون مآلات الأمور؛ ويعلمون ـ أكثر من غيرهم ـ من أين جاؤوا وكيف أتوا وعلى م يعتمدون في كل ذلك ـ أن يواجهوا الجميع بمنهج أكثر صراحة وصرامة ومكاشفة؛ يعمل على كبح جماح المزايدين والأدعياء ويضع حدا لاستبلاه المواطنين واستغبائهم والاستخفاف بأحلامهم ويخفض من قيم النفاق والتزلف والمحاباة والمزايدة لقاء لإعلاء من قيم الصدق والنصح والعفاف والرشد؟(( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) .

ألا يستحق هذا الشعب العظيم المسكين الذي يسوسه الفقر والأمية بما يترتب عليهما من عوز ومرض وتخلف أن يساس من طر ف ساسة أكفاء مشفقين عليه غيورين على مصالحه أوفياء لقيمه  يسهرون  على تحقيق طموحاته وتطلعاته وأحلامــــــه؟ (( يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ))

ألم يأن لمؤسسة الحكم أن تشكل نموذجا  وقدوة ترتقي بهذه الممارسة التشريفية التكليفية التي من أجلها استخلف  الله الإنسان في الأرض واستعمره ومكن له فيها أن يسمو بها إلى مستوى أكثر نقاءا وشفافية وطهرا؟ يعود نفعه على الجميع .

لا شك أن عهدا جديدا من السكينة و الوقار والألفة بين مكونات المجتمع قد أظل البلد منذ سنة ونصف لا يماري في ذلك إلا مكابر جاحد، وهي لعمري شروط جوهرية و أساسية للإستقرار وتحقيق أي تنمية بشرية تنشد النجاح و تتوخى الرشد.

ولا شك أن جائحة ماحقة اجتاحت العالم بأسره وتركت بصماتها ماثلة في مختلف مناحي الحياة فجعلت من السنة النصرمة سنة استثنائية بكل المقاييس وفي كل شيئ، لكن الموازنة في الاولى بين الحزم والصرامة من جهة والعطف واللين من جهة أخرى معادلة لا غنى عنها  في هذا المقام لتسيير مجتمع متشاكس تسييرا محكما يعطي لكل ذي حق حقه

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى       مضر كوضع السيف في موضع الندى

وترميم مخلفات السنة الماضية وتضميد جراحها هو الآخر مطلب ملح.

و لاشك أن ما يسمى بالدولة العميقة التي يرثها أي حاكم جديد عن سلفه أو أسلافه تشكل عقبة كأداء في سبيل الإصلاح أي إصلاح منشود  يقبض على يد الظالم ويرد المظالم إلى أهلها ؛ لكن رفع هذا التحدي ضرورة ملحة لا مفر منها  لتنفيذ أي برنامج إصلاح جاد ؛ ولا مجال للتردد [فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك] وإلا لما كانت هناك حكمة في تداول  السلطة .

ومعلوم أن العدالة  هي أساس الحكم ؛ فالعدالة النافذة هي وحدها أنجع سبيل وأيسرها إلى وضع الأمور في نصابها ؛ عدالة تؤمن (الجزاء الوفاق) بكل صرامة وحزم(( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) .

والساحة  لا تخلو من الكفاءات النظيفة التي تنتظر دورها في البناء والتعمير متى توفرت البيئة الصالحة والمناخ الإيجابي ؛ وتلك أساس وظيفة الحكم .

على قدر أهل العزم تاتي العزائم    وتاتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها   وتصغر في عين العظم العظائم
(( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العـسر ))

 

رحم الله الأمير عبد الرحمن لقد استشكل أمرا جديرا بالإٍستشكال .

اثنين, 11/01/2021 - 17:09