سيدي ولد دومان يكتب عن بريد الليل

سيدي ولد دومان.

بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله الاستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل
لقد كان رحمه الله رجلا فذا بكل المقاييس وعبقرية لا تتكرر في كل العصور….
كنت اسمع عنه كثيرا وأنا تلميذ في الاعدادية والثانوية ثم بدأت اكتشفه واتعرف عليه من خلال كتاباته التي كنت اقرؤها بنهم لجودة اسلوبها وسلاسة لغتها وعمق افكارها واستقرائها للتاريخ وصدق تنبؤاتها.
حتى اتيحت لي فرصة التعرف عليه عن قرب والاحتكاك به.
كان ذلك خلال الحملة الرئاسية لسنة 1997 حين عين الرئيس معاوية، حفظه الله، ضمن لجان حملته لجنة للتعبئة والتحسيس كان المرحوم محمد يحظيه رئيسا لها وكنت نائبه. وخلال اجتماعاتنا الأولى، اكتشف كل منا الآخر ونشأت بيننا علاقة من نوع خاص، مبنية على الاحترام المتبادل وتثمين المواهب والتقدير والاعجاب. كان بالنسبة لي ” اكتشاف الموسم ” تعلمت منه كثيرا وتقاسمت معه كل شيء، كنا نتفق في الطرح والتحليل وقد اعجبت به حد الاقتداء. وبعد اسبوع من الاجتماعات ووضع الخطط والبرامج، قال لي أريدك ان تشرف على هذه اللجنة وتتولى كل امورها ولا تراجعني الا حيث ترى ذلك ضروريا.
كان رحمه الله رحمة واسعة، يقول لي دائما إن ما يعجبني في ترجمتك،(كنت اتولى ترجمة بعض كتاباته) هو انك تكتب النص وكأني من كتبه بالعربية. تاتي بمضمونه وروحه. اعتقد ان ذلك بسبب تمكنك من اللغتين وموهبتك في الكتابة فأقول له إنك تبالغ استاذي العزيز فالحقيقه ان قراءة وترجمة ما تكتبه متعة لا يضاهيها شيء، وجمال الترجمة من جمال اللغة المترجم منها. قال لي يوما وقد ذكرت له ما لاقيت من صعوبة خلال ترجمتي لأحد مقالاته، كنت اعرف انك الوحيد القادر على ترجمة هذا المقال لأنه مقال ادبي اكثر منه سياسي…..
ان الكتابة عن ظاهرة مثل ظاهرة محمد يحظيه وعن قامة بحجمه، تحتاج تأليف مجلدات لن تستوفيه حقه او تحيط بمناقبه مهما كان حجمها وععددها. وإن كان في العمر بقية، سوف اساهم، إن شاءالله، بجهدي المتواضع في ذلك العمل الوطني الضروري. وقد أعددت لذلك خلال لقاءاتي الخاصة مع المرحوم، فأنا كنت أدرك في حياته، انه شخص غير عادي.
اما في هذه العجالة التأبينية فسأذكر بعض المناقب التي اطلعت عليها بنفسي واعتقد انها غير معروفة عند العامة:
1- سعة الاطلاع: كان رحمة الله عليه ذا معرفة موسوعية؛ كان اديبا لبيبا ومؤرخا وفيلسوفا وصحافيا وسياسيا من طينة نادرة. لا اتذكر اني زرته الا وجدته يقرأ كتابا ويستمع إلى اذاعة دولية. ورغم انه كان لا يخرج من بيته العامر إلا نادرا ولا يزور إلا بيوتات معدودة، كان دائما على اطلاع تام بجميع المستجدات ويحللها بعمق ويوضح اسبابها. وكنت اقول في نفسي من أين له هذه المعلومات التي قل من يعرفها؟ إنه من أهل ” الكشف ” ….
2 – القدرة الفائقة على التحليل المنطقي والاستشراف إلى حد ” الولاية ” او ” الكشف ” بلغتنا نحن أهل الصوفية…ولا عجب، فقديما قيل ” كاد العقل ان يكون وحيا ” ..
حدثني مرة عن حدثين لا يعرف لهما تفسيرا وقلت له إن هذا هو بالضبط ما نسميه ” الكشف ”
كان الأول في أواخر شهر اغسطس( آب ) 1969 كان رحمه الله في سفر مع رفقة له إلى اطار وفي الطريق توقفوا للاستراحة واستظلوا بظل شجرة ليس ممدودا وبعد صلاة الظهر وخلال غفوة قصيرة ،خيل إليه انه سمع من اذاعة BBC ان انقلابا وقع في ليبيا، نفذه ضباط احرار وانهى الملكية. فاستيقظ وسأل من كانوا معه، فاجابوا انهم لم يسمعوا شيئا من ذلك. وبعد أيام، قامت ثورة الفاتح واذيع الخبر كما سمعه تماما. والثاني انه رأى نفسه في مسيرة كبيرة ويحيط به شخصان معروفان لم يكن يتصور انه يمكن ان يسير معهما في اتجاه واحد- لأسباب لا اريد ذكرها- وبعد فترة نفذ انقلاب 1978 ونظمت مسيرة تأييد كبيرة كان المرحوم يتوسطها وهو محاط بذات الشخصين..
3- المعرفة الدقيقة بالمجتمع وتاريخه وثقافته والعلاقة الخاصة مع الأدباء وكبار الفنانين وذوي الرحم والضعفاء.
لقد اكتشفت انه ،رحمه الله، كان خبيرا بالموسيقي التقليدية( ازوان ) وكانت تربطه علاقات خاصة بكبار الفنانين امثال الوالد سيداتي ولد آبه والمختار ولد الميداح ومحمد ولد بوبه جدو تغمدهم الله برحمته وسيداحمد ولد احمد زيدان اطال الله في عمره وغيرهم كثير. كما اكتشفت انه يخصص يوما من الاسبوع لزيارة الاقارب والارحام ويواسي الضعفاء بطريقة تخفي يمينه ما جادت به عن شماله. رحمه الله رحمة واسعة وجعل ذلك في ميزان حسناته.
4- الوفاء الذي لا تشوبه شائبة للأهل والاصدقاء والرفاق.
أتذكر انني سنة 1998 وخلال مراسيم دفن المغفور له باذن الله، اخي الاكبر واستاذي وقدوتي في الادارة والتسيير، أحمد ولد الزين، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته، رأيت المرحوم محمد يحظيه يبكي بحرقة ملفتة…وبعد سنوات سألته عن سر ذلك المشهد الذي لا زال محفورا في ذاكرتي، فقال لي، رحمه الله ،وهو يغالب دموعه : أحمد هو اقدم صديق عندي Il était mon plus vieil ami.
فعندما كنت في السنة السادسة من السلك الابتدائي في مدرسة اكجوجت، التزم لي الاهل بجائزة مميزة إذا انا نجحت في مسابقة دخول السنة الأولى من الاعدادية. وهي أن اقضي فترة” القيطنه ” في اطار وهناك كان لقائي الأول مع أحمد الذي نجح في السنة نفسها وكان يقضي العطلة الصيفية مع والدته. فكنا لا نفترق. وعند افتتاح المدارس، كانت الحافلة الحكومية التي تنقل تلاميذ اطار تمر باكجوجت لتنقل تلاميذه في طريقها إلى لقوارب ولما ركبت وجدت أحمد بين التلاميذ مع آخرين أذكر منهم الرئيس معاوية الذي كان يومها في السنة الثانية او الثالثة من الاعدادية. ومن ذلك التاريخ، ظلت علاقتي بأحمد ولد الزين كما هي ،صداقة حقيقية مبنية على الصدق والوفاء والاخلاص حتى توفي، رحمة الله عليه.
رحم الله الاستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل واسكنه فسيح جناته لقد ترك فراغا لا يسد واحترقت بموته مكتبة غنية لا يمكن تعويضها. فلله ما أخذ وله ما بقي، وإنا لله وإنا إليه راجعون
نواكشوط 15 يناير( كانون الثاني ) 2021.

سبت, 16/01/2021 - 11:12