من الواضح ان سياسة بايدن الخارجية واستراتيجيته الكبرى تجاه العالم لم ترسم حتى الآن، وان هناك محاولات بحثية عديدة عند المحللين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة لاستعادة بناء قوة امريكا في العالم وترميم ما ينظرون اليه كخراب اصاب عظمتهم في العالم في فترة ادارة ترامب، والتي يعتبرونها عاصفة قد مرت في الافق، تاركة دمارا عظيما في المصالح والهيبة الامريكية، وبالتالي تنتظر ادارة بايدن القيام بلملمة آثارهذه العاصفة لكي تتمكن من اعادة تركيب استراتيجيتها العظمى وتبييض الوجه الامريكي المنافق للسيطرة على العالم مرة اخرى.
وبينما تشيركل التصورات السياسية ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تقبل بالتخلي عن دورها كالرجل الاول في االعالم، الا ان سياسة الادارة الجديدة لا تزال مرتبكة وغامضة وغير قادرة على الربط ما بين المتغيرات الجديدة على الصعيد العالمي و خاصة في الشرق الاوسط، حيث قد تغيرت ملامح موازين القوى الاقليمية منذ فترة عمل بايدن في ادارة أوباما ، و من اهم هذه المتغيرات الايجابية بالنسبة لمنطقتنا تزايد و نجاح قوى محور المقاومة المعارضة لاسرائيل في مواجهة التطورات السلبية الناتجة عن صفقة القرن الترامبية، وما ألت اليه من الزيادة في التطبيع مع الكيان الصهيوني، مما أدى السيد جاريد كوشنر، والذي يبدو انه لا يزال متمسكا بملف الشرق الاوسط، الي القول ان الصراع العربي الاسرائيلي قد انتهى،لأن مزيد من الدول العربية ستلتحق بقطار التطبيع لتصبح جزءا من الاستراتيجية الصهيونية ، مما سيؤدي إلى نهاية القضية الفلسطينية.
فالسؤال الذي نبحث عن اجابته اليوم، هو كيف ستقوم ادارة بايدن باعادة بناء استراتيجيتها العظمى؟ وما هي المنهجية التي سيتبعها؟ فهل سيقسم المفكرين الاستراتيجيين العالم على اساس مناطق جغرافية متفاوتة لبناء سياسات متنوعة تتطابق مع كل منطقة؟ مما يعني التعامل مع العالم بالقطعة، ليصبح المشهد اكثر تعقيدا؟ او هل ستكون هذه الاستراتيجية عالموية بحيث انها ستتبع نفس المقاييس في معالجة معظم القضايا حسب المصالح الاقتصادية المتشابكة؟ وإلى أي مدى ستلعب مواقف و استعدادات الحلفاء المختلفين للتعاون مع الولايات المتحدة دورا في اعادة بناء الاستراتيجية الكبرى؟
و هل الارباك والصمت الذي يعم الفكر السياسي الامريكيي بعد العاصفة الترامبية سينتهي مؤديا إلى عواصف جديدة؟ ام هل سيستمر صناع الٌقرار الاميركيين في الدوران بحلقات مفرغة حتى يتمكنوا من صياغة استراتيجيتهم النيرة الجديدة؟
ان امريكا اذن في مرحلة انتظار وتفرج و غربلة لمصالحها من اجل لملمة حلفائها و ووضعهم قيد الاختبار، فقد فتحت سوقها للمناقصات التجارية و العروض و الرسائل السياسية التي ستصلها منهم. فمثلا ، اليوم بعد ان بدأ وزير الخارجيىة الامريكي جولة إلى اليابان لاعادة بناء تحالفاته ضد الصين في آسيا، (في نفس الوقت الذي تقوم به الولايات المتحدة بمناورات عسكرية مشتركة مع كوريا الجنوبية , حيث لا يزال يتواجد 28 ألف و 500 عسكري امريكي ) و صلت رسالة طريفة و هامة من كوريا الشمالية لبايدنىعلى لسان اخت ‘كيم يونغ ان’، تحذر فيها الولايات المتحدة قائلة ‘ اذا ارادتم ان تناموا بسلام خلال الاربعة أعوام القادمة ، فعليكم ألا تفعلوا شيئا يعكنن صفاء نومكم’ و ذلك لان كوريا الشمالية تعتبر ان المناورات المشتركة بين كوريا الجنوبية و الولايات المتحدة بالاضافة الى عدد العسكريين الامريكيين المرابطين في جنوب كوريا كعبارة عن‘استعداد للحرب’ .
و بما ان هذا المقال يهدف التركيز بشكل خاص على الرسائل التي سيوجهها الحلفاء و بالاضافة إلى الاعداء تجاه الادارة الجديدة، يجب الاشارة الى الرسالة الجديدة التي ارسلها الرئيس التركي أردوغان إلى حليفه الامريكي بمناسبة مرور عشرة سنوات على الحرب السورية تحمل عدة دلالات و فحواها:
“على إدارة بايدن الوفاء بوعودها والعمل معنا لإنهاء المأساة في سوريا’ مضيفا أن الشعب التركي يؤمن بأن إقامة نظام سياسي قادر على تمثيل جميع السوريين ضروري لإحلال السلام والاستقرار مجددا., موضحا ان إعادة تأسيس السلام والاستقرار في المنطقة (سوريا) مرتبط بالدعم الغربي الأمين لتركيا..
“أقولها بكل فخر الموقف التركي لم يتغير منذ بدء الحرب الداخلية في سوريا إلى أن الوضع الإنساني في سوريا سيكون المقياس النهائي لصدق مواقف الدول، سيما أن الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية باتت متداولة بكثرة في الآونة الأخيرة، ثم أكد أردوغان رفض بلاده كل المخططات التي لا تلبي المطالب الأساسية للشعب السوري، مبينا أن ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة.وأردف قائلا: “ينبغي على الغرب أولا أن يتخذ موقفا واضحا من تنظيم “ي ب ك” الإرهابي الذي يعتدي على المناطق الآمنة (في سوريا) ويساند النظام الدموي. كماأوضح أردوغان أن المناطق الآمنة التي أسستها تركيا مع العناصر السورية المحلية، دليل على التزام أنقرة بمستقبل الجارة سوريا،وشدد على أن الحل السلمي والدائم لن يكون ممكنا إلا باحترام وحدة أراضي سوريا ووحدتها السياسية’..
ان هذه الرسالة التي وجهت الى بايدن بعد تجاهله لاردوغان الذي كان ينتظر ان يتصل به الحليف الاكبر، منذ استلامه الرئاسة تعبر عن تخوف واضح و شديد من قبل اردوغان من غضب هذه الادارة عليه، على عكس اسلوب الصداقة الذي كان يمارسه ترامب مع حلفائه الصغار .كما تعبر عن خوفه من أي حل في المنطقة دون لعبه دورا و الحظي على حصة هامة.
و لذلك قام اردغان باستخدام شعارات الحزب الديمقراطي الامريكي مثل حقوق الانسان و السلام ووحدة الأراضي و الشعوب ، بشكل كاريكاتوري، لارضاء و الانصياع امام الحليف الاكبر , و لكن الرسالة تعبر ايضا عن تخوفا على الوضع الداخلىي التركي و خاصة من التنظيم الكردي و تهديده للحدود التركية.
فبعد ان فضحت ادارة بايدن الجريمة التي تمت ضد الخاشوكجي في اسطنبول، وادعاء بايدن بانه اتخذ موقفا متصلبا ضد ولي العهد السعودي، ازداد تخوف اردوغان من بايدين لان محاولة الانقلاب الكبرى المدعومة امريكيا التي اجريت ضد اردوغان خلال فترة ادارة اوباما في عام 2016 و هي نفس الفترة التي كان بايدن فيها الرجل الثاني في هذه ادارة و التي يقال انه كان من يدير خلالها الازمة التركية ، تشير ان بايدن يفهم جيدا ما يحدث في تركيا بعيدا عن المشاعر العاطفية. و قد أدى هذا التخوف الى قيام اردوغان بسلسلة من التبديلات الادارية للشخصيات السياسية التي لا يودها بايدن، كما ان بايدن لم يستجيب إلى محاولات تركيا لاعادة المفاوضات لإزالة العوائق امام برنامج صفقة طائرات ‘الف 35’ بعدما كان الرئيس ترامب قد انهى دور تركيا في الشراكة بصنع هذه الطائرات بناء على رفض اردوغان الغاء صفقة شراء الصواريخ الروسية‘اس ’400
فرغم عرض اردوغان العودة إلى الوضع السابق في هذا الملف الا ان استمر بايدن في تجاهله و استمر بخطة ترامب بعزل تركيا من برنامج الاسلحة و بمعاملته بفوقية و استعلاء اكثر من ترامب نفسه الذي كان يقال عنه انه كتن يعامل كل الرؤساء الاخرين من الصف الثاني امثال اردوغان و بوتين و نتنياهو، وكانهم زملاء. كما ان ازداد تخوف اردوغان بسبب القضية االمرفوعة ضد البنك التركي ‘هالكبانك’ التابع للحكومة التركية والجلسة القضائية التي ستعقد في هذا الشهر في جنوب نيو يورك بتاء على التهمة الموجهة ضد هذاالبنك لانه كان يسمح لايران بتحويل بلايين من الدولارات، نقدا و ذهبا و نفطا، عبر تركيا لتفادي العقوبات الامريكية و ذلك تحت حماية حلفاء اردوغان المقربين.
كل ذلك قد دعي اردوغان ان يتملق للحصول الى رضاء بايدن لتفادي الغرامة التي ستفرض على البنك، و التي قد تصل الى مليارات من الدولارات، و بينما كان يبدو للاتراك ان ترامب سيتغاضى عن هذا الموضوع اثبت بايدن انه مهتما بجدية به.
و قدأصبح اذن من الواضح ان ادارة بايدن تتخذ موقفا قاسيا تجاه تركيا في كل المجالات حيث عبر احد العاملين في ادارة بايدن عن ذلك قائلا :‘نحن ليس في موقع نستطيع عبره الاعتماد على تركيا مثل السابق او مثل ما يمكننا الاعتماد على حلفاء آخرين في حلف الناتو’، كما قال احد اعضاء البرلمان التركي السابق ان العلاقات التركية الأمريكية تمر الآن بأسوأ أوقاتها’،
و من الهام الاشارة انه قد برزت مؤخرا بعض المقالات التركية الاستراتيجية التي تتطرق الى مفهوم لم يكن شائعا تماما في قاموس المفكرين الاستراتيجيين و هو مفهوم ‘ الدولة المتوسطة ذات الاستراتيجية المرنة’ لوصف وضع الدولة التركية، بدلا من وصفها كقوة اقليمية و توسعية.و يشير هذا ا المصطلح الذي ينطبق على دولة مثل تركيا ان سياساتها ليست ناتجة عن نيتها بالتفوق و التوسع و السيطرة، بل فقط لضمان الاستمرار بدورها كلاعب ضمن الحدود المفروضة على ملعبها السياسي مما يعني ايضا تامين ‘كوريدور’ او ممر امني حول حدودها، و الاستمرار بتأمين دورا لها كوسيط على الساحة الدوليه بسبب و وضعها الجعرافي و التاريخي و الاقتصادي .
كما قد بينت بعض الابحاث الاستراتجية ان تركيا لم تنشر يوما ما، وثيقة استراتيجية أو عقيدة رسمية بالمعنى الأكاديمي للمفهوم ، بالرغم من أن بعض إصداراتها المختلفة مثل وثيقة سياسة الأمن القومي السرية وغير المنشورة تحتوي على مؤشرات لوجوداستراتيجية خاصة بها، بالاضافة ان ليس لدى وزارة الخارجية التركية ووزارة الدفاع الوطني تقليدا لمشاركة توجهات سياستهما مع الجمهور ، بالاضافة ان التقلبات الادارية ما بين الوزراء الذين لا يستمرون الا لفترات قصيرة في مناصبهم ، قد عرقلت من تطوير رؤية سياسية واضحة ، بالاضافة الى عدم وجود ممارسات و تقاليد للدولة التركية بالإعلان عن عقائدها الاستراتيجية الغامضة في مجالات السياسة الخارجية والأمنية ،مما يسمح لها بالتقلب في سياساتها.
هناك امور اخرى تلعب دورا هاما في تحديد مكانة تركيا الاقليمية و من اهمها انتمائها للحلف الاطلسي و لعبها دور الوسيظ بين الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب في هذا المجال.
ففقط بعد انتهاء مرحلة الانتظار للادارة الامريكية الجديدة، و بناء على تطورات عديدة في كل الاتجاهات ،أكان على صعيد سياسات الدول الكبرى او الدول المتوسطة او الصغرى ستتوضح اللوحة اكثر فاكثر حول الأدوار المطلوبة من كل اللاعبين.
رأي اليوم