«لقد أصبحنا في اختلافنا السياسي نشبه جماهير كرة القدم التي تريد فوز فريقها مهما كلّف الأمر»، هكذا رأى وزير الأمن الداخلي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جورج بوش الابن مايكل تشيرتوف ما يجري في بلاده من اختلاف حاد إلى أقصى درجة حول شخصية الرئيس ترامب وما إذا ما كان أهلا أخلاقيا وسياسيا لقيادة البلاد.
لم يجانب الرجل الصواب إذ يكفي إلقاء نظرة على تصريحات هذا المعسكر أو ذاك لنلمس الشرخ العميق الذي باتت تعاني منه الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي يعتبر فيه نائب الرئيس مايك بنس أن «ترامب هو أكثر رئيس تحقيقا للإنجازات وأنه أصبح واحدا من أنجح رؤساء الولايات المتحدة عبر تاريخها في السنتين الأوليين فقط من ولايته»، لا يتردد وزير الخارجية الأسبق جون كيري في القول إنه «أصبحت لدينا الآن العديد من الأدلة على عدم قدرة الرئيس دونالد ترامب في قيادة البلاد (…) فهذا رئيس لا يفهم أمريكا ولا يفهم الدستور ولا يفهم دور وزارة العدل ولا حتى مفهوم فصل السلطات، وهذا أمر خطير».
مع ذلك، ليس من المناسب تماما تصوير الأمر وكأن ترامب على شفا هاوية قريبة، ومعه مؤسسة الحكم الأمريكية، فتشيرتوف مثلا عبر عن رفضه للفكرة القائلة بأن حكم ترامب في حالة انهيار، قائلا «أنا لا أرى أنه في حالة من الانهيار، لأن حكم القانون ومؤسساتنا مستمرة في العمل، ولكني أعتقد أن الهجوم على الصحافة أو أحكام القانون (من قبل الرئيس) ليس فعلا صائبا، ولدي ثقة في من يعملون في الحكومة والقضاة وأعضاء الكونغرس وحتى أعضاء السلطة التنفيذية». ورغم ذلك، فإن تعدد وتوالي الضربات الموجهة لترامب ليست بسيطة أبدا وآخرها، وأقساها ربما، المقال مجهول الصاحب في صحيفة «نيويورك تايمز» الذي يتحدث عن دائرة ممانعة تحيط بالرئيس للحد من رعونته بما يضمن سير مؤسسات الدولة وهيبتها في الحد الأدنى على الأقل، وهو المقال الذي تزامن مع كتاب «خوف» أو «خشية» لصحافي التحقيقات الشهير بوب ودورد الذي كان مع زميله كارل برنستين بطلي الإطاحة بالرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974 عقب كشفهما ما عرف بفضيحة «واترغييت».
وإذا كان هذا الكتاب الأخير، على أهمية ومكانة صاحبه البالغ من العمر حاليا 75 عاما، هو آخر الضربات الموجهة لترامب وغرابة شخصيته وأسلوب حكمه، فإن الضربة المؤلمة الحقيقية جاءت من مقال «نيويورك تايمز» لأنه يفترض أنه جاء من داخل الدائرة الضيقة المحيطة بترامب ولأنه صور الرجل في النهاية على أنه «سفيه» يحتاج إلى نوع من «الوصاية» للحد من خطورته على البلاد ومؤسساتها.
معضلة الرئيس الأمريكي حاليا هو أنه لم يعد يعرف من أين يمكن أن تأتيه اللكمات، ومن يمكن له أن يثق فيه ومن لا، بحيث بات مجبرا حتى على أن يشك في نفسه!! وضع غريب و غير مسبوق دعا نائب الرئيس إلى التطرق إلى ما لا يمكن تخيله أبدا، فمايك بنس و بعد أن اعتبر أن مقال «نيويورك تايمز» وكتاب وودوارد الذي يتحدث عن ترامب وعما يحدث داخل البيت الأبيض ما هما إلا «محاولة لصرف الانتباه عن الاقتصاد المزدهر ونجاح الرئيس ترامب»، سئل من قبل قناة «فوكس نيوز» الموالية لترامب و سياساته عما إذا كان يعتقد بضرورة إخضاع جميع كبار المسؤولين في إدارة ترامب إلى اختبار جهاز كشف الكذب بمن فيهم شخصه، فلم يستهجن الأمر بل تطوع بالرد قائلا «شخصيا لا أمانع في الخضوع لاختبار كهذا، كما لا أمانع من المثول أمام أي تحقيق تأمر به الإدارة، وفي كل الأحوال فإن القرار بهذا الخصوص متروك للرئيس نفسه».
غريب مجرد طرح فكرة كهذه والأغرب جواب نائب الرئيس عنها عوض استبعادها، وفي ذلك دليل على اهتزاز الثقة داخل الدائرة المحيطة بترامب إلى درجة باتت تستوجب أي شيء لوضع حد لها. حتى أن ديفيد فروم كاتب خطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش سابقا، يقول في مقابلة تلفزيونية مع محط «سي ن ن» المناهضة للرئيس إن هذا المقال الشهير غير الموقع إنما يضاف «إلى مجموعة الأدلة الكثيرة على عدم قدرة الرئيس ذهنيا وأخلاقيا، ولكن كون الكاتب مجهولا يعني أننا سنناقش هوية الكاتب بدلا من مواجهة الأزمة التي أخبرنا بها كاتب المقال»، خالصا في النهاية إلى أن «الإدارة الأمريكية غاضبة ولا تقدر أو تحترم الرئيس، ولو كان الأمر عكس ذلك وكانت الإدارة فعلا تحترم وتقدر رئيسها لما شاهدنا هذا الكم الهائل من التسريبات التي تخرج من البيت الأبيض».
نقطة واحدة هامة للغاية قد لا تكون دارت في خلد بنس وهو ينجر إلى الرد على سؤال جهاز كشف الكذب الغريب: ماذا لو أخضعنا بالمناسبة الرئيس ترامب نفسه لهذا الجهاز؟!!
القدس العربي