جمال خاشقجي كرر أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة أنه لا يعتبر نفسه معارضا ولا منشقا وهو محق في ذلك. هذا الصحافي السعودي الشهير الذي اختفى في ظروف غامضة لدى زيارة قنصلية بلاده في إسطنبول قضى أغلب سنوات حياته المهنية ابنا بارا للمؤسسة الحاكمة إلى درجة أن اسمه، لا سيما في السنوات الماضية، يكاد لا يمر دون الإشارة إليه بصفته «المقرب من دوائر صنع القرار في المملكة».
لم يكن خاشقجي طوال هذه السنوات متمردا أو مشاكسا أو ناقدا لاذعا لسياسات هنا وهناك لكنه كان دائم الحرص، إن لم يكن على نوع من الاستقلالية، فليس أقله على هامش خاص به، يتسع أحيانا ويضيق أحيانا أخرى إلى أن أغلق عليه بالكامل في الأشهر الماضية. كان هذا الهامش يسمح له بأن يقول رأيه بكل صراحة، مقتربا من الخطوط الحمراء أحيانا دون أن يخرقها أو يعبث بها. فعل ذلك في لقاءاته التلفزيونية وفي مقالاته بجريدة «الحياة» اللندنية، وكذلك عند رئاسته تحرير صحيفة «الوطن» السعودية لسنوات قليلة، وهكذا كان يريد أن يفعل في قناة «العرب» الموؤدة.
كان خاشقجي يتقدم خطوة أو خطوتين ويتراجع مثلهما ضمن هذا الهامش الذي ارتضاه لنفسه وسمحت به السلطات، وقد تكون استفادت من بعضه أحيانا، إلى أن جاء إلى دفة الحكم من يطلب منه أن يصمت بالكامل فلن يسمح له بعد اليوم لا بكتابة مقاله الأسبوعي في «الحياة» ولا حتى بالتغريد في «تويتر».
كان ذلك قاسيا و«مهينا» كما قال، لكن البعض حسده على هذا الصمت الإجباري لأنه لم يكن من دعوا إلى إثبات ولائهم والانخراط في جوقة شتم قطر بعد حصارها. وحين رُفع عنه هذا الحجر وطـُــلب منه العودة إلى الكتابة والتغريد وجد نفسه «مدعوا إلى حفل لا يجيد الرقص فيه» على حد تعبيره.
كان بإمكان خاشقجي أن يتمتع بحريته الشخصية مع التزام الصمت المطبق في الخوض في أي شيء له علاقة من قريب أو بعيد بالشأن العام في بلاده
لهذا كله كان لا مفر له من مغادرة السعودية ليعانق في واشنطن تلك «البيئة الحرة للكتابة وإبداء الرأي وهو ما لم أحظى به في بلدي» في إشارة إلى مقاله الأسبوعي في «واشنطن بوست» الذي ليس من اليسير أن يحظى فيها كاتب عربي بمثل هذه المكانة. وعلى وزن الفيلم السينمائي المصري «جعلوني مجرما» أصبح بإمكان خاشقجي أن يقول منذ ذلك الحين «جعلوني معارضا».
كان بإمكان خاشقجي أن يتمتع بحريته الشخصية مع التزام الصمت المطبق في الخوض في أي شيء له علاقة من قريب أو بعيد بالشأن العام في بلاده، لا سيما سياسات الأمير الشاب محمد بن سلمان، لكنه لم يفعل وما كان لهذا التحدي و«الخروج عن طاعة ولي الأمر» ليمر هكذا، خاصة وأن من بين المحيطين بهذا الأمير من يـُــعتبرون «النقيض الحقيقي» لخاشقجي ليس فقط على المستوى الفكري وإنما بالأساس على المستوى الأخلاقي، فبقدر ما كان خاشقجي حريصا على انتقاء كلماته بكل عناية وهو ينتقد السياسات السعودية الداخلية والخارجية كانت الدائرة المحيطة بالأمير، أو المحسوبة عليه على الأقل، لا تراعي إلاّ ولا ذمة في الحديث عن كل شيء.
في السابق كان يمكن لخاشقجي أو من يشبهه، وهم قلة على كل، أن يعبر عن رأيه، ضمن الحدود المتعارف عليها تاريخيا في السعودية، دون أن يخشى تشهيرا أو ملاحقة أو اعتقالا لكن هذا الزمن ولى.
مشكلة خاشقجي أنه لم يكتف فقط برفض التماهي مع الجوقة الإعلامية السائدة في بلده بل ورفض أن يبلع لسانه ويسكت. أكثر من ذلك، اختار الساحة الأمريكية للكتابة وحظي بموقع متميز في «واشنطن بوست» وهذا أكثر من قدرة الجماعة على التحمل، رغم أن الرجل لم يكن مناهضا لكل توجهات القيادة الجديدة في بلاده فهو على سبيل المثال رحب بالخطوات المجتمعية الانفتاحية المتعلقة بالمرأة ولم يجد في سياسة بلاده المناهضة لإيران ومساعي بسط هيمنتها على المنطقة العربية ما يعترض عليه لكنه ظل منتقدا لحملة الاعتقالات ولتلك الانتقائية الجلية في ما سمي بمكافحة الفساد وكذلك لعداء الرياض لكل ما له علاقة بالربيع العربي ولتيار الإسلام السياسي كما ظل منتقدا بشدة للمغامرة العسكرية المدمرة في اليمن.
إذن الرجل لم يكن معارضا ولا هو عرّف نفسه كذلك، ولكنه لم يكن ولم يرضى أن يكون «هتــّــيفا» مهللا لكل شيء تقدم عليه قيادته مهما كان متهافتا أحيانا أو مدمرا أو سخيفا. إن ما فعلته الرياض مع خاشقجي، مهما يمكن أن تبلغ درجته، إنما هو كمن يطلق النار على قدميه.
كل الأمل ألا يكون هناك مكروه قد حاق بالرجل وأن يكون قادرا على العودة إلى أهله وقلمه، هذا القلم الذي قدرته وأجلـّــت صاحبه «واشنطن بوست» وهو معها، وهو في محنته الحالية، مع أنه لم يلتحق بها إلا مؤخرا.. في حين اشاحت بوجهها عنه صحف عربية كتب فيها لسنوات وسنوات!!
القد س العربي