الآن وقد حصحص الحق قي قضية مقتل جمال خاشقجي، وبدأت الوقائع المرعبة تتكشف رويدا رويدا يمكن القول، دونما تهويل، إن مرحلة ما بعد مقتل خاشقجي لن تكون كما قبلها، ليس فقط بالنسبة للحكم السعودي وإنما للمنطقة الخليجية بأكملها فضلا عما كشفته هذه القضية من نقاط لا بد من التوقف عند أبرزها:
ـ مهما تكن التخريجات السياسية التي سيتم التوصل إليها بعد انتهاء التحقيق الجنائي فإن لا شيء سيطمس في النهاية حقيقة أن ولي العهد السعودي أصيب في مقتل في صورته الدولية، وأن ما لحق به من اتهامات مشينة، صحت تماما أم لم تصح، ستظل تلاحقه كظله فإما أن تزيحه من موقعه أو تبقيه فيه ضعيفا منهكا. كلتا الحالتين مدمرتان للبلد ولرجل اظن أن لا شيء يقف في وجه طموحاته الجارفة.
ـ الشيء الأكيد الذي سيترتب عما سبق هو سعي الأسرة المالكة في السعودية إلى إعادة ترتيب أوراقها في ضوء الزلزال الذي أصابها، خاصة وأن آلية تسلسل الوصول إلى الحكم قد اهتزت بعد تعيين الأمير محمد بن سلمان بخلاف الأعراف التي كانت سائدة لعقود، مما أثار الكثير من السخط داخل الأسرة التي وجدت كذلك في السياسات التي اعتمدها الأمير الشاب، وفي نوعية الأشخاص المحيطين به، ما عمق هذا التذمر المكتوم في الغالب.
ـ دخول العلاقات السعودية الأمريكية في أزمة غير مسبوقة، إذا استثنينا الحظر النفطي في بداية سبعينات القرن الماضي، وهذا أمر لم يتجل فقط في تصريحات الرئيس ترمب وبعض مستشاريه وإنما الأهم في تصريحات الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ. أما الإعلام الأمريكي فقد انخرط في متابعة إخبارية لا ترحم ترصد كل التفاصيل كبيرها وصغيرها. وإذا كان بإمكان السعوديين مثلا تبرير تغطية قناة «الجزيرة» المكثفة بـــ «ضغائن قديمة وتصفية حسابات» فكيف لها أن تصف تغطية «سي ن ن» وغيرها من القنوات الأمريكية؟!! لقد دمرت هذه القنوات إلى جانب كبرى الصحف الأمريكية، لا سيما «واشنطن بوست»، صورة القيادة السعودية تدميرا سيتطلب إصلاحه سنوات وسنوات.
إن مرحلة ما بعد مقتل خاشقجي لن تكون كما قبلها، ليس فقط بالنسبة للحكم السعودي وإنما للمنطقة الخليجية
ـ الفشل الذريع، وربما القاتل، الذي منيت به الآلة الإعلامية السعودية، والإماراتية الحليفة، من قنوات تلفزيونية وكتاب وصحافيين وجدوا أنفسهم في وضع غير مسبوق، مدفوعين لتبرير ما لا يمكن تبريره والدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه. لم تصمد الرواية التي أرادت إقناع العالم بأن القصة كلها ملفقة وعبارة عن مسرحية. لم يبلع عادل الجبير لسانه وحده، كثيرون فعلوا مثله من كبار الإعلاميين، أما من تجرأ و«اجتهد» في كتابة مقال حول الموضوع فاتضح أن سكوته كان أفضل بكثير.
ـ الفشل الأخلاقي المروّع للمؤسسة العربية الحاكمة فأغلب المسؤولين العرب لم ينبسوا ببنت شفة. وإذا ما استثنينا بيانات «التضامن» الغريبة مع المملكة ضد «الحملات الظالمة التي تتعرض لها» والتي أصدرتها بعض وزارات الخارجية العربية، فإن لا أحد من الوزراء العرب تناول هذه المسألة، ولو بعبارات غائمة، في حين لم يبق مسؤول غربي إلا وأدلى بدلوه، مع أن الصحافي المغدور عربي والقاتل المفترض عربي كذلك!!
مهما يكن من أمر، فإن الضرر الفادح الذي أصاب الحكم السعودي جراء عملية القتل هذه، ضرر فادح ومدمر لا يذهب فقط بملايين الدولارات التي أنفقت في الغرب من أجل تسويق صور الإصلاح والتطوير داخل المجتمع السعودي و«رؤية 2030» وإنما أيضا بالمكانة الخاصة التي لأرض الحرمين في قلوب ملايين العرب والمسلمين وهذا ربما هو الأخطر.
لا شك بأن عملية تصفية خاشقجي كانت عملية حمقاء، فكرة وتنفيذا، وتداعيات لعنتها ستظل تلاحق الرياض لفترة طويلة. كذلك، ليس من السهل أبدا طي صفحتها في القريب إذا استمر العناد في جعل من اتخذ القرارات فعلا يدفع ثمنها في أقرب وقت. وغني عن القول إن انهماك السعودية في لملمة ذيول هذه الأزمة سيعيق تحركها في معالجة ملفات أخرى حارقة ليس أقلها الحرب في اليمن والمضي في الاصلاحات الاقتصادية التي أعلنتها خاصة أن ما جرى لن يمضي دون أن يلقي بظلاله الثقيلة على الوضع الاقتصادي للمملكة. هنا يمكن أخذ من اعتذر من الشركات العالمية الكبرى عن حضور الملتقى الاقتصادي الكبير «دافوس في الصحراء» هذا الشهر في السعودية مجرد مؤشر أولي على ما ينتظر السعودية من منغصات اقتصادية مع شركات دولية مرموقة.
السعودية دولة كبرى ومن المهم جدا والملح تعافيها مما أصاب سياساتها في الفترة الأخيرة من تخبط وخفة تنم عن عدم نضج وتهور وغرور، وهو ما لم يُعهد فيها من قبل تاريخيا في ظل كل الملوك السابقين. إذا ما حصل ذلك، وهو في مصلحة الجميع، فدم الزميل جمال خاشقجي لم يذهب هدرا… رحمة الله عليه.
القدس العربي