في ذكرى رحيل الدكتور جورج حبش

هيلدا حبش 

في الذكرى الحادية عشرة لرحيل المناضل والقائد الفلسطيني والعربي جورج حبش (26 يناير/ كانون الثاني 2008)، مؤسس حركة القوميين العرب، والأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يُصدر مركز دراسات الوحدة العربية، مذكرات الدكتور جورج حبش في كتاب بعنوان «صفحات من مسيرتي النضالية» الذي يغطي فيه حبش أبرز محطات تجربته النضالية على مدى نحو نصف قرن.

المقدمة**:
أقدم للقارئ العربي هذه الصفحات الثمينة والقيّمة لألقاء الضوء على مرحلة مشرقة من تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، كما عاشها الحكيم إلى جانب شعبه بإرادة حديدية وصمود أسطوري في مواجهة جميع التحديات. وفي زمن انقلبت فيه المقاييس والمفاهيم، وأصبح فيه النضال الوطني التحرري عملاً إرهابيا، تعرض الحكيم للعديد من محاولات الاختطاف والاغتيالات والاعتقالات والملاحقات الأمنية من قبل القوى المعادية للثورة الفلسطينية.
شاء القدر أن يقترن اسمي باسم هذا القائد الكبير ويرتبط مصيري بمصيره كرفيقة درب عايشت الأحداث التاريخية إلى جانبه عن كثب في مسيرة نضالية طويلة، شاقة وشائكة.
وجدت نفسي أمام عظمة هذا الثائر الكبير، الذي كرّس حياته وقدم عمره لرفع الظلم والقهر والمعاناة عن شعبه وعمل جاهداً لإعادة حقوقه الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة إلى دياره التي هُجر منها قسراً. لقد اندفعت بكل قوة وإيمان لأكون عوناً له في رحلته الصعبة والمعقدة؛ أشاركه قسوة الحياة وشظف العيش وحياة المنافي والشتات والملاحقات الأمنية من قبل العدوالصهيوني، وجميع القوى العاتية المعادية لشعبنا. رافقته في حله وترحاله، فانصهرنا معاً في أتون النضال الدؤوب والصراع المرير في مواجهة عدو عنصري استيطاني بغيض، صادر حقنا في حياة حرة كريمة فوق تراب وطننا الغالي.
كيف لا؟ وأنا ابنة القدس، عشت تداعيات النكبة بكل مرارتها وكآبتها وانعكاس ذلك على النفوس؛ فأزيز الرصاص والانفجارات ما زال يطن في أذني، ومشهد الجنود المدججين بالسلاح وهم يعتلون أسوار القدس لا يغيب عن مخيلتي، وذلك الشريط الشائك الذي كان يقسّم مدينتنا بين قدس شرقية وقدس غربية، والاشتباكات عند باب العامود وسقوط الشهداء من المناضلين ومن المواطنين الأبرياء، الذين كانوا يحاولون التسلل للعودة إلى ديارهم وبيوتهم التي هجروا منها.
مشاهد مؤلمة ستظل محفورة في الذاكرة وفي الوجدان. لقد وطأت أقدامنا الأرض المقدسة منذ الطفولة قبل أن تدنسها أقدام الغزاة الصهاينة. إن القدس كانت وستبقى عربية بتاريخها المجيد وحضارتها وشعبها العريق وأسوارها ومبانيها وشوارعها وأزقتها، كل ذلك يشهد على عراقة هذه المدينة المقدسة بأماكنها الدينية التاريخية؛ وستبقى القدس عاصمة أبدية لفلسطين التاريخية مهد الديانات السماوية ومنبع الحضارات.
أستعيد شريط الذكريات لأستذكر رفاق درب أعزاء غادرونا باكراً وهم في مقتبل العمر، وضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن أرضنا ومقدساتنا، وعن مبادئهم وقناعاتهم ومعتقداتهم. أستذكر الشهداء الأحباء الذين ترك رحيلهم في الحلق غصة ومنهم : الدكتور وديع حداد، غسان كنفاني، باسل الكبيسي، خالد أبوعيشة، محمد اليماني، رفيق عساف، محمد الأسود (جيفارا غزة)… والقائمة تطول وتضم آلاف الشهداء الشرفاء الذين سقطوا على درب الكفاح، لكنهم ما زالوا يحتلون مكانة خاصة في قلوبنا ووجداننا. كان الحكيم يودع الشهداء بدموع ممزوجة بالإصرار والتصميم على مواصلة المسيرة مهما كانت الصعوبات وغلت التضحيات، ويؤمن بأن المقاومة هي الطريق الوحيد لاستعادة كرامتنا ورفع الظلم عن شعبنا وأمتنا العربية.
بعد كل هذه السنوات الطويلة من النضال المرير والمضني، وهذه المسيرة النضالية المشتركة كما عشتها إلى جانب الحكيم الدكتور جورج حبش شريك العمر ورفيق الدرب بصمود كبير وبمعنويات عالية وإرادة حديدية، والتي كانت رحلة كفاح عاصفة بالمخاطر والصعوبات والتحديات عشناها معاً كما عاشها شعبنا على مدى أكثر من نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي الذي استمر من جيل إلى جيل، هذه التجربة الغنية بالأحداث التاريخية المهمة بكل انتصاراتها وانكساراتها، أنقلها لكم بكل أمانة ومصداقية وضمير حيّ كرفيقة درب شاهدة على مرحلة مهمة من تاريخ الثورة الفلسطينية. لقد وضع الحكيم ثقته بي وكنت مؤتمنة على حياته وأسراره وأمنه ومؤمنة بمبادئه ومعتقداته وخطه السياسي وأفكاره التحررية. لذلك أجد نفسي اليوم أمام مسؤولية تاريخية تقع على عاتقي كزوجة وكرفيقة درب لهذا الانسان الاستثنائي. من هذا المنطلق أود أن أعلن على الملأ أن الحكيم ترك أمانة بين أيدينا وهي عبارة عن مشروع مذكرات بدأنا بكتابتها معا بعد خروجنا من بيروت ببضع سنوات، وقبل أن يقدم استقالته من الأمانة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أوراق وصفحات مهمة لم تنشر من قبل ولم تكتمل بسبب ظروفه السياسية، وانشغاله في هموم العمل اليومي المنهك وقضايا الثورة الشائكة بكل تعقيداتها وأعبائها. من هنا واحتراماً لرغبته، وتكريماً له في الذكرى الحادية عشرة لرحيله، قررت نشرها لتبقى وثيقة تاريخية تستنير بها الأجيال وتنهل من عصارة التجارب التي خاض غمارها الحكيم بكل شموخ وكبرياء وتفان وإنكار للذات.
لقد نجحت في إقناعه بالكتابة ليدوّن بنفسه تجربته الفريدة من نوعها والغنية بقيّمها ومعانيها، واستطعت وبشق الأنفس أن أنتزع الوقت منه انتزاعاً في غمرة الأحداث الساخنة، لأسجلها له بخط اليد بعد إلحاح مني ليكتب بنفسه أبرز محطات مسيرته النضالية التي امتدت لستة عقود من الزمن، كمؤسس لحركة القوميين العرب وكأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد القادة المؤسسين لمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد وضعنا برنامجاً أسبوعياً مدته ساعة تقريباً وكان جهداً منظماً على مدى بضع سنوات. كنت أدون مباشرة ما يمليه علي حرفياً، واستطعنا أن ننجز أكثر من مئتي صفحة، رغم ظروفه الصعبة وضغط العمل والأوضاع السياسية المعقدة. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، أي قبل صدور كتاب «الثوريون لا يموتون أبداً» بسنوات عديدة، ذلك الكتاب الصادر عن دار فايار الفرنسية، والذي تمت ترجمته إلى العربية كما أوصى الحكيم وصدر عن دار الساقي في بيروت. إن كتاب «الثوريون لا يموتون أبداً « عبارة عن حوار طويل ومتشعب، حيث أجرى الحكيم أكثر من مئة ساعة من الحوار مع الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو في العام الذي سبق رحيله. أما هذه المذكرات التي بين أيديكم فهي استعادة لشريط الذكريات، حيث استرسل الحكيم في سرد الأحداث التاريخية التي خاض غمارها، وأبحر وسط أمواجها المتلاطمة، فكتبها بكل تفاصيلها بأسلوب مشوق وبشغف بالغ. إلا أنه لا بد أن نجد جوانب مشتركة بين الكتابين، كونها تتعلق بالأحداث التاريخية ذاتها التي عاشها الحكيم بكل تفاصيلها ومحطاتها التاريخية المهمة.
تحدث الحكيم في هذه المذكرات بكل وضوح وشفافية ومصداقية وصراحة وجرأة متناهية عن مسيرة نضال وكفاح طويلة ومضنية. بدأت من تاريخ النكبة الفلسطينية التي كانت نقطة التحول في حياته، وتحدث بإسهاب عن مرحلة تأسيس حركة القوميين العرب والإعداد للكفاح المسلح والعمل الفدائي وتشكيل خلايا سرية للقيام بعمليات استطلاعية داخل الوطن المحتل في الخمسينيات من القرن الماضي. تحدث الحكيم أيضا عن علاقته الخاصة والاستثنائية بالرئيس عبد الناصر، وعن دعمه ومساندته للحركة، وعن دور الحركة في تحرير اليمن الجنوبي من الاستعمار البريطاني، كما استرسل في الحديث عن التناقضات المثيرة للجدل في المواقف المصيرية بين التنظيمات الفلسطينية، والخلافات مع الرئيس أبوعمار على قاعدة وحدة- صراع- وحدة. ثم تحدث عن مرحلة تواجد الثورة في الأردن، وخطف الطائرات والمعارك مع الجيش الأردني وخروج المقاومة إلى لبنان. تحدث مطولاً عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت وصمود المقاومة والتحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية، وعن التلاحم اللبناني الفلسطيني كما لم يتحدث من قبل. سجل مواقف سياسية مبدئية ومصيرية مهمة لا تحتمل المهادنة ولا الترهل ولا الحلول الوسطية على حساب المبادئ والقضايا التي تمس المصالح والثوابت الوطنية. واعتبر التنازلات المجانية التي قدمتها القيادة الفلسطينية في اتفاقيات أوسلو المذلة مع العدو الإسرائيلي وإلغاء الميثاق الوطني خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وجريمة بحق الشعب الفلسطيني، إذ أنها لا تلبي الحد الأدنى من طموحات شعبنا.

القدس كانت وستبقى عربية بتاريخها المجيد وحضارتها وشعبها العريق وأسوارها ومبانيها وشوارعها وأزقتها

تحدث الحكيم بإسهاب عن قضايا خاصة وداخلية للجبهة، ووضع النقاط على الحروف ووثّق للتاريخ كل ما كتبه من نتاجه الفكري والوثائق والتقارير السياسية المهمة للمؤتمرات الوطنية للجبهة الشعبية، التي تشكل معظم أدبيات الجبهة الشعبية. كتبها بعصارة فكره وعرق جبينه وبجهد مضن في ظل ظروف سياسية وعسكرية قاسية ومعقدة فأثرى بها تاريخ الجبهة وإرثها النضالي، كان أهمها «الاستراتيجية السياسية والتنظيمية» التي كتبها في أغوار الأردن من داخل القواعد العسكرية، وقدمها للمؤتمر الوطني الثاني للجبهة الذي انعقد في الأردن عام 1969 وكتاب «مهمات المرحلة» من وثائق المؤتمر الثالث للجبهة الذي انعقد في لبنان عام 1972، والنظام الداخلي الذي كتبه الحكيم وكان بمثابة دستور يتقيد به جميع القيادات والأعضاء في الجبهة. كتب الحكيم كذلك وثائق المؤتمر الرابع عام 1980 والمؤتمر الخامس عام 1993 وكانت آخرها وثائق المؤتمر السادس للجبهة الشعبية الذي قدم به استقالته، التي أحدثت دوياً هائلاً من ردود الفعل في أوساط الساحتين الفلسطينية والعربية عام 2000. فترك فراغاً كبيراً مازال تأثيره واضحاً على الساحة الفلسطينية وعلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
أما نحن، فعلينا تقع مسؤولية تجميع هذا الإرث الثري وتوثيقه لنحافظ عليه وعلى الملكية الفكرية للحكيم وكل ما كتبه من مواضيع علمية ونظرية، بما فيها وثائق حركة القوميين العرب، فهذا الإرث ليس ملكاً لتنظيم أو عائلة، بل ملكاً لشعبنا وللأجيال من بعدنا. هكذا يكون الوفاء لجميع شهداء حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وللأمين العام والقائد المؤسس جورج حبش، لنحميه من خطر القرصنة وتزوير التاريخ وتشويه الحقائق في مثل هذا الزمن الرديء الذي يكثر فيه المتسلقون الذين يتطاولون على تاريخ الحكيم وعلى إرثه النضالي بنفس انتهازي وصولي لم نشهد له مثيلا من قبل.
لقد استمتعت بإعادة قراءة هذه الصفحات بعد كل هذه السنوات الطويلة من تدوينها. وأشير إلى أنني أنشر للمرة الأولى بعض الصفحات النادرة، وهي يوميات كتبها الحكيم بخط يده من داخل سجن الشيخ حسن في سوريا عام 1968. حقائق مؤلمة لكنها تاريخية ومهمة جداً، ولعل أهمية هذه الأوراق تكمن في أنها نجت من الإتلاف الذي تعرضت له الكثير من الصفحات الشبيهة لاضطراره لذلك عند مداهمة عناصر الأمن لزنزانته بين الحين والآخر. ستبقى تلك التجارب القاسية نبراساً للأجيال وصفحة مجد في مسيرته النضالية المضيئة.
وقبل أن أنهي هذه الكلمات أدعو كل مواطن عربي حر أن يقرأ هذا الكتاب لأنه يعبر تعبيراً صادقاً وأميناً عن صاحب التجربة الذي تحدث بكل شجاعة وموضوعية وقال الحقيقة مهما كانت جارحة وقاسية . فقد آمن الحكيم بأن قول الحقيقة كل الحقيقة هي حق للجماهير وواجب عليه. لذلك قال ما له وما عليه من موقع المسؤولية كمؤسس لحركة القوميين العرب وكأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكقائد تاريخي للشعب الفلسطيني، وترك لنا وللأجيال وثيقة تاريخية مهمة لا تقدر بثمن.
سيبقى هذا الثائر الكبير حاضراً بفكره وتعاليمه وأخلاقه الثورية ومبادئه الثابتة وكل ما تركه من إرث نضالي ضخم، الضمير الحيّ للثورة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني ورمزاً للنقاء الثوري ونقطة ضوء وسط كل هذا المشهد القاتم الذي يحيط بنا في هذه الأيام العصيبة.

القدس العربي

سبت, 26/01/2019 - 10:33