وقعت «قوى إعلان الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري الانتقالي» في السودان، أمس الأحد بالأحرف الأولى على وثيقة الإعلان الدستوري، والتي ستمهد لتسليم إدارة البلاد إلى حكومة مدنية.
موقّع الوثيقة من جهة العسكر كان نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو (المشهور بحميدتي)، الذي اعتبر أن الاتفاق تم وفق صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، وأن الطرفين طويا «صفحة عصيبة من تاريخ البلاد أساسها التناحر»، وهما جملتان مفيدتان وضروريتان لولا انه ألحقهما بالقول إنه «لن يهدأ لنا بال إلى حين القصاص من كل من أجرم في حق الشعب السوداني»، وهو تصريح مفهوم لو أن «قوى إعلان الحرية والتغيير» هي التي أطلقته وليس الشخص الذي يعتبر مسؤولا عن مجزرة القيادة العامة، فحميدتي، بهذا التصريح، لا ينكر مسؤوليته عن تلك الأحداث الدموية فحسب، ولكنه يعلن، بطريقة ماكرة، أنه ما زال في موقع المقتدر على «القصاص»، وعلى الانقلاب على صيغة «لا غالب ولا مغلوب» مجددا لو تمكن، وهو ما يعني إعادة البلاد إلى «التناحر» الذي أعلن طيّ صفحته.
يعود نجاح السودانيين في الوصول إلى هذه التسوية المهمّة إلى عدة أسباب، أهمها تماسك الوزن الأكبر من النخبة السياسية السودانية في مواجهة العسكر وتمكنها من استيعاب حملة القمع الكبيرة التي نفذها عناصر «الدعم السريع»، والتغلب على إجراءات عزل السودان عن العالم عبر قطع الانترنت وإبعاد وسائل الإعلام، ثم إعادة تحشيد الشارع وخروجه في مظاهرات كبرى مستمرة، وبذلك صار «المجلس العسكري» أمام معادلة عقيمة هي الاستمرار في القتل من دون مخرج سياسي ممكن.
إضافة إلى فشل «المجلس العسكري» في تجميع مظلة سياسية تكسر معادلة «الحرية والتغيير»، فقد لعبت بعض الدول الغربية دورا فاعلا في تهديد «المجلس العسكري» بالعقوبات في حال استمرّ في نهجه الدموي، وتناظر ذلك مع تعرّض بعض قوى «الثورة المضادة» العربية، ممثلة بالسعودية والإمارات، إلى حالة انحسار بفعل هزائمها في اليمن وتصاعد الخطر الإيراني في الخليج، وفشل هجوم خليفة حفتر في ليبيا، وصمود الديمقراطية في تونس، وابتعاد المغرب والأردن عن تلك الأجندة الخطرة والجنونية.
تم التوقيع بحضور الوسيط الإفريقي محمد الحسن ولد لبات، والوسيط الإثيوبي محمود درير، كما لقي ترحيبا عربيا وإسلاميا ودوليا، ولكن، وبطريقة «العزف النشاز» التي سمعناها من «حميدتي»، فقد قام وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش بإطلاق تصريح قال فيه إن «السودان يطوي صفحة حكم البشير والإخوان ويدخل حقبة جديدة في تاريخه السياسي بالتحول إلى الحكم المدني»، وهو تصريح يظهر الهوس المرضيّ لدى الإمارات ومسؤوليها بالعداء للإخوان، فالاتفاق يدخل السودان فعلا في حقبة جديدة ويبدأ تحوّلا نحو الحكم المدني، وهو أمر سعت أبو ظبي حثيثا للقضاء عليه عبر دعم اتجاه البطش بالمتظاهرين وإنهاء الثورة السودانية بالأساليب الدموية، في محاولة لتكرار السيناريو المصري. ولو كانت الإمارات فعلا مع «الحكم المدني» لما دعمت هجوم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا في عز انطلاق الثورتين السودانية والجزائرية.
لقد سقط حكم البشير فعلا، لكن الحكم المدنيّ وتثبيت الديمقراطية في السودان يستلزم مشاركة كل القوى المدنية، بما فيها الإخوان، وإلا صار قناعا لنظام حكم استبدادي جديد، وهو أمر لا يمكن الاتكال فيه إلا على قوى الثورة السودانية كافة، بما فيها التي أعلنت بعض أطرافها أنها أقصيت من الاتفاق، كالحركات المسلحة في جنوب السودان، والحزب الشيوعي السوداني، الذي فضّل الحفاظ على موقعه في المعارضة، والإخوان أنفسهم، الذين كانت بعض اتجاهاتهم ضحايا لنظام البشير أيضا.
القدس العربي