
يطلق عليه الفرنسيون “الماضي الذي لن يمر”..
أثبتت انتخابات هذا العام في فرنسا أن هذه العبارة – التي صاغها المؤرخ الفرنسي البارز هنري روسو – أنها أكثر من مجرد عبارة. بطريقة خفية وغير دقيقة، حدد تواطؤ فرنسا في المحرقة، وإلى درجة عميقة، بجانب جرائمها الاستعمارية، موضوعات الحملة الرئاسية الأكثر إثارة للجدل في الفترة الأخيرة. عندما يذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد، سيختارون بين التفسيرات المتحاربة لماضي فرنسا بقدر ما، وبين الرؤى المختلفة لمستقبلها.
إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، المرشحين في الجولة النهائية من التصويت، يختلفان في نواح كثيرة. ماكرون، وهو مصرفي استثمار سابق ومحبوب من النخب الباريسية والأكاديمية. أما لوبان، فهي مواطنة قومية متشددة، تدافع عن سياسة الحماية الاقتصادية وغلق الحدود. لكن نادرًا ما يتعارضان حول شيء أكثر من الحديث عن التاريخ، كما فعلا كثيرا خلال حملة طويلة ومريرة.
بالنسبة لـ “لوبان” – ابنة جان ماري لوبان، المُدان باستنكار المحرقة والذي رفض مرارًا غرف الغاز النازية على أنها “تفاصيل من التاريخ” – فهي لا تخجل من الماضي. في الشهر الماضي، علّقت على التليفزيون الوطني بأن فرنسا لا تتحمل أي مسؤولية عن جولة باريس المشينة خلال المحرقة، عندما ألقت السلطات الفرنسية القبض على حوالي 13 ألف يهودي، وتم ترحيلهم قريبًا إلى حتفهم.
تم ترحيل نحو 76 ألف يهودي من فرنسا إلى معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية. معظمهم لم يعد أبدًا.
قالت لوبان: “إن كان هناك مسؤولون عن ذلك، فهم من كانوا في السلطة في ذلك الوقت، هذه ليست فرنسا”.
ظللت روايات إنكار المحرقة على حزب الجبهة الوطنية للوبان طوال حملة عام 2017. في مطلع مارس، صُور مسؤول في الحزب في نيس وهو يقول: “لم تكن هناك عمليات قتل جماعي كما قيل”. في أواخر أبريل، قيل إن جان فرانسوا جالخ، نائب لوبان للجبهة الوطنية خلال أيام توقف الحملة، قال في مقابلة مُسجلة عام 2000، إن النازيين لم يستخدموا أبدًا الغاز السام “زيكلون ب” لإبادة ملايين اليهود وغيرهم.
“من وجهة نظر فنية هذا مستحيل”، كما يُزعم أنه قال في تلك المقابلة، رغم ادعاءه منذ ذلك الحين بأنه لا يستطيع تذكر أنه قال ذلك، وقاضى صحيفة لوموند لتقديمه كمُنكر محرقة.
على النقيض من ذلك، اختار ماكرون – في مخاطرة سياسية كبيرة – مواجهة رؤوس مُظلمة أخرى من الماضي الفرنسي، وخاصة الاستعمار. يقول البعض أن التكتيك ينبع من أيامه الأولى كمساعد للمفكر الفرنسي الراحل بول ريكور، الذي غالبًا ما كان يدرس تقاطعات التاريخ والذاكرة.
في واحدة من قرارات ماكرون الأكثر إثارة للجدل حول الحملة الانتخابية، ذهب في فبراير إلى الجزائر، التي احتلتها فرنسا لمدة 132 عامًا، ودعا الدولة الفرنسية للاعتذار رسميًا عن جرائمها كقوة استعمارية، وخاصة في الحرب الدموية لاستقلال الجزائر بين 1954 و1962. تاريخ فرنسا في تلك الحرب، قال ماكرون في مقابلة بعد أيام، يمثل “جرائم وأعمال بربرية” تستحق اليوم أن توصف بأنها “جرائم ضد الإنسانية”.
هاجمت لوبان ماكرون لأشهر على هذه الكلمات الثلاث، واتهمته مرة أخرى في نقاش مُتلفز بـ “إهانة” الشعب الفرنسي.
في قضية بارزة، اتُهم والد لوبان في الحملة الرئاسية عام 2002، بالتعذيب أثناء الحرب الجزائرية.
بنجامين ستورا، الخبير فرنسي البارز في التاريخ الجزائري الاستعماري وعضو مؤسس في متحف باريس الوطني لتاريخ الهجرة، قال في مقابلة إن الغضب حول إعلان ماكرون سلط الضوء على الطرق التي، على الأقل في هذه الانتخابات، تُبقي الماضي حاضرًا.
أضاف: “بالنسبة لكثير من الناس، كان الاستعمار دائمًا مشكلة هامشية بعيدة، لكن لا أحد صادق اليوم يمكن أن يراه كذلك بعد الآن. كما أن مسألة الهجرة مركزية في مجتمعنا”. قال إن الكثير من المشاكل في المجتمع الفرنسي اليوم تنبع من أعقاب تاريخ فرنسا الاستعماري، ونضال الدولة الفرنسية لدمج المهاجرين في الإمبراطورية الفرنسية التي كانت واسعة الانتشار.
اختتم: “إذا كنت لا تعرف تاريخ الجزائر، لا يمكنك فهم فرنسا الحالية”.
اعتُبرت انتخابات هذا العام تاريخية على نطاق واسع، حيث مثل المرشحون الرئيسيون أطرافًا خارج وسط اليمين واليمين الذي يحكم البلاد منذ عام 1958، بل إن الكثيرين تفكروا في مدى ما تمثله هذه الانتخابات من خروج عن النموذج الإحصائي الذي تصوره شارل ديجول، مع رئيس قوي يُجسد كرامة وطنه.
لكن بالنسبة للبعض، شكّل احتمال فوز الجبهة الوطنية بالرئاسة هو عكس مفهوم التطور الجديد.
قال زئيف ستيرنهيل، مؤرخ بارز في الفاشية الفرنسية: “عندما تضعهم في إطار استمرارية التاريخ الفرنسي، لا يمكنك العثور على عنصر واحد جديد جلبته أسرة لوبان وحركتهم. هذا هو القومية اليمينية المتشعبة مع كراهية الأجانب المعتادة، كراهية الآخر، وتقديس الشعب ضد النخبة”.
(أُجبرت الجبهة الوطنية الفرنسية على استبدال زعيم الحزب الذي نفى استخدام النازيين للغاز السام).
أضاف ستيرنهيل أن هذه الأيديولوجية كانت ثابتة في التاريخ الفرنسي منذ عام 1789، وتظهر طوال القرن التاسع عشر. “هذا يظهر في أحداث مثل قضية دريفوس، عندما اُتهم قائد عسكري يهودي بالخيانة بالخطأ. كذلك في وقت لاحق خلال حكومة فيشي في الحرب العالمية الثانية، عندما استغل اليمين المتطرف الهزيمة العسكرية للاستحواذ على السلطة”. كما قال ستيرنهيل، مضيفًا أن انتصار لوبان هذا العام “سيكون ثورة مناهضة للتنوير ومعادية لليبرالية”.
بالنسبة إلى روسو، الذي كان محتجزًا مؤخرًا في الولايات المتحدة أثناء حظر السفر الذي فرضه الرئيس ترامب، تشكل سياسة الذاكرة – خاصة المعقدة – إحدى القضايا العديدة التي تواجهها فرنسا في الانتخابات في مجتمع متنوع يمزج بين العديد من تجارب المهاجرين.
أضاف: “سيواجه الرئيس القادم للجمهورية تحديًا رئيسيًا في محاولة إيجاد طريقة للتوفيق بين الذكريات المختلفة. الأهم من ذلك، الذكريات المتباعدة”.
وفي الوقت نفسه، قال إن الماضي باقي هنا.
المصدر: واشنطن بوست