بثت وكالة الأنباء الرسمية المصرية اليوم خبرا يقول بأن مجموعات ليبية مسلحة اختطفت ثلاثة عشر مواطنا مصريا مسيحيا في مدينة سرت غرب ليبيا ، وهو عدد يضاف لسبعة آخرين اختطفوا قبل عدة أيام ، وتأتي الواقعة في سياق حادث آخر مفجع عن جريمة مقتل مواطن مصري وزوجته وابنته الصغيرة هناك أيضا ، بعد اختطافهم لعدة أيام .
وتلك الوقائع المتتالية والخطيرة تجعلنا نعود بالذاكرة إلى ما حذرنا منه مرارا وتكرارا ، وأذكر أني كتبته في هذه الزاوية قبل عدة أشهر ، من خطورة عواقب التدخل المصري في الصراع المسلح الذي يعصف بليبيا الآن ، وبشكل علني ، وإعلان الانحياز والدعم الرسمي والعلني لفصيل من المتصارعين على السلطة في ليبيا ، وقلت أن لنا أكثر من مليون مواطن مصري ، معظمهم من البسطاء الذين خرجوا يبحثون عن فرصة عمل بعد أن ضاقت عليهم بلادهم ـ مع الأسف ـ وأن هؤلاء جميعا أمانة في أعناقنا ولا بد من مراعاة مصالحهم وأمنهم وأمانهم هناك قبل أن نخطو أي خطوة في "وحل" الصراع الليبي .
ولكن أحدا لم يسمع ولم يتحوط ، لأن السياسة الحالية تدار بطريقة ركوب الرأس ، وليس وفق رؤى استراتيجية دقيقة وعاقلة تراعي مصالح الشعب المصري ومواطنيه . منذ البداية وقد قررت الإدارة المصرية الجديدة ، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الانحياز الكامل والصريح للمجموعة الانقلابية في ليبيا التي شكلت ما يعرف ببرلمان طبرق ، وجميعنا يعرف كيف تم تكوينه بالمال الإماراتي ، وهي المجموعة التي فجرت الأوضاع في ليبيا بشكل خطير عقب اختطافها للبرلمان مباشرة ووضعت البلاد على حافة الحرب الأهلية الشاملة بمجموعة قرارات مجنونة صنفت كل قوى الثورة الليبية الذين أطاحوا بالقذافي ونظامه باعتبارهم مجموعات ارهابية .
ثم دعمت الجنرال الأخرق ـ حسب وصف الصحافة الأمريكية ذاتها ـ خليفة حفتر من أجل الحرب على القوات التابعة لما يعرف بفجر ليبيا ، وهي قوات تابعة أيضا لرئاسة أركان الجيش الليبي الذي يمكن اعتباره حالة جنينية لم تكتمل بعد ، وقد انقسم هذا الجيش بين الولاء لمجموعة طبرق بقيادة حفتر وبين الولاء للسلطات الجديدة في طرابلس بقيادة رئيس المؤتمر الوطني الليبي المنتخب أيضا ، والحالة الليبية حساسة جدا ومعقدة ، وهذا ما فهمه بسهولة الأمريكان والبريطانيين والإيطاليين ، والاتحاد الأوربي عقد اجتماعات بخصوصه انتهت إلى خطورة أي تدخل خارجي ، وأن هذا يمكن أن يعقد الأمور أكثر ويفجر المنطقة ويحولها إلى مركز إعداد واسع وخطير للتنظيمات الإرهابية من كل مكان .
ولا تبدي أي دولة في العالم دعمها العسكري والأمني والمادي صراحة لقوات حفتر سوى مصر والإمارات ، والإمارات ليس لديها ما تخشاه في ليبيا أو تخسره ، ولكن مصر لديها مليون مواطن ، أكثر من عدد مواطني دولة الإمارات نفسها ، ومن حق هؤلاء أن يكونوا في صلب ووعي أي خطوة مصرية في هذا المستنقع الليبي الخطير . مصر حاليا تحتضن قيادات التيار الانقلابي في ليبيا بما فيهم مجموعة القذافي بزعامة ابن عمه الملياردير أحمد قذاف الدم رجل الاستخبارات الليبية الشهير ، والسيسي لا يمل من تكرار دعم مصر لما أسماه "الشرعية" في ليبيا ، ويقصد برلمان طبرق.
رغم أنه يعرف أن المحكمة الدستورية الليبية قضت بحله وهو قرار كان بديهيا احترامه خاصة من مصر تحديدا ، لأن الجيش المصري هو الذي أجبر محمد مرسي على احترام حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان المنتخب الذي كان الإخوان يملكون فيه أغلبيه ، فهل المحاكم الدستورية تحترم فقط على مزاجنا وفي مصر وحدها ، أم أن الشرعية لها أكثر من معيار وميزان ، والمهم الآن أن التطورات التي تحدث تضع صاحب القرار المصري أمام مأزق حقيقي ، فهو ملزم بحماية مواطنيه في ليبيا ، ولكنه قطع كل خطوط التواصل مع من يملكون السلطة الحقيقية على الأرض في معظم التراب الليبي ، وأعلن عليهم الحرب ضمنيا بدعمه الصريح لخصومهم في طبرق وبعض مناطق بنغازي ، وبالتالي هو لا يملك إلا أحد حلين :
إما أن يعلن التوقف عن التدخل في الشأن الليبي صراحة ووقف دعم خليفة حفتر والتوجه للعمل كوسيط محايد غير منحاز ، وإما أن يستخدم القوة لحماية مواطنيه من القتل والانتهاك والاختطاف وهو ما يعني التدخل العسكري المباشر ، وكلا الخيارين فيه مخاطرة كبيرة في ظروف لا تسمح لمصر بمثل هذه المجازفات . السياسة الخارجية المصرية تجاه ليبيا تحديدا في حاجة لمراجعة جادة وسريعة ، وحسابات المصالح ـ للشعب المصري أولا ـ ينبغي أن تكون هي الحكم والمرجعية ، وهي رأس الأمن القومي للوطن قبل أي شيء آخر ، وبدون شك ، فإن كل وقت يضيع الآن في هذه المراجعة يضعف فرصنا ، ويزيد من إحراج الدولة المصرية .