بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس؛ ركزت شخصيات إسرائيلية جهودها لتشجيع اليهود الفرنسيين على الهجرة إلى فلسطين المحتلة. حيث وجه لهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رسالة مفادها أن "إسرائيل" هي وطنهم، كما كلف لجنة وزارية ببحث سبل تشجيع هجرة اليهود الفرنسيين والأوروبيين إلى فلسطين المحتلة.
ولنفس الهدف اجتمع وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان مع مسؤولين في وزارته وآخرين أمنيين لبحث تعزيز الروابط مع المؤسسات والجمعيات اليهودية، وزعماء الجالية اليهودية في فرنسا.
ويبدو أن الانتخابات الإسرائيلية ألقت بظلالها على المشاركة الإسرائيلية في مسيرة باريس ضد الإرهاب يوم الأحد 11 يناير/كانون الثاني 2015، والتي ضمت -إضافة إلى نتنياهو وليبرمان- وزير الاقتصاد الإسرائيلي نفتالي بينيت. وكان حضورهم -وكذلك تصريحاتهم الداعية إلى هجرة يهود فرنسا- بمثابة دعاية انتخابية مبكرة.
ردود الأفعال
في مقابل الرسائل والتصريحات الإسرائيلية الداعية إلى هجرة يهود فرنسا إلى فلسطين المحتلة، شدد رئيس الوزراء الفرنسي في تصريحات صحفية قائلاً "إن فرنسا بدون يهودها لا تكون فرنسا"، وأشاد بـ"أكبر وأقدم جالية يهودية في أوروبا ساهمت إلى حد كبير في الجمهورية".
ومن جهته، رفض المدير العام لاتحاد المنظمات اليهودية في أوروبا الحاخام مناحيم مرغولين مطالبة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو يهود فرنسا بالقدوم إلى إسرائيل في أعقاب الأعمال الإرهابية التي وقعت في فرنسا.
وقال مرغولين -الذي يمثل أيضا أكثر من 700 حاخام يهودي بجميع أنحاء العالم- في تصريحات صحفية "إنه يؤسفني أنه في أعقاب كل حادث لا سامي يقع في أوروبا، تصدر حكومة إسرائيل نفس التصريحات حول أهمية الذهاب إلى إسرائيل، وذلك بدلا من أن تستخدم جميع الطرق الدبلوماسية المتاحة لتعزيز حماية اليهود في أوروبا".
"تعتبر الجالية اليهودية في فرنسا من الجاليات اليهودية الكبرى في أوروبا وأكثرها نفوذاً على الإطلاق، حيث وصل مجموع أفرادها في بداية عام 2015 إلى نحو 700 ألف يهودي (وفق دراسات عديدة)، وينحدر 60% منها من أصول مغاربية ولها نفوذ في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"
وأضاف مرغولين "إن الهجرة إلى إسرائيل ليست هي الحل للإرهاب اللا سامي، وعلى حكومة إسرائيل أن تتخلى عن هذه الدعوات الشعبوية مع كل حادث يقع في أوروبا". وأشار إلى أن هذه الدعوات "تضعف وتمس بحق الجالية اليهودية بأوروبا في العيش بأمان حيثما وُجدت"، وعلى الحكومة الإسرائيلية أن تعترف بالأهمية الإستراتيجية لوجود مثل هذه الجالية في أماكن وجودها المختلفة". وفي هذا السياق تعتبر الجالية اليهودية في فرنسا من الجاليات الكبرى عدداً، مقارنة بالتوزع اليهودي في الدول الأوروبية الأخرى.
حول يهود فرنسا
تعتبر الجالية اليهودية في فرنسا من الجاليات اليهودية الكبرى في أوروبا وأكثرها نفوذاً على الإطلاق، حيث وصل مجموع أفرادها في بداية عام 2015 إلى نحو 700 ألف يهودي (وفق دراسات عديدة)، وينحدر 60% منها من أصول مغاربية، ولها نفوذ في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذا فضلاً عن كون أبنائها يتبوؤون مراتب عليا في الدولة والمجتمع في الجامعات الفرنسية، وفي مجالات العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية.
وفي المجال الاقتصادي، فإن القسم الأكبر من العمالة بين اليهود يتركز في قطاع الخدمات والأعمال التجارية، وتصميم الأزياء وفي الإعلانات وقطاع الإعلام الفرنسي حيث يلاحظ نفوذ يهودي في وسائل الإعلام المختلفة، خاصة الدوريات والصحف الهامة والفضائيات، ولرأس المال اليهودي المنظم دور في ذلك، كما توجد في فرنسا مائة جمعية يهودية.
إضافة إلى ذلك؛ فإن سر نفوذ اللوبي اليهودي في فرنسا يكمن في تعدد المنظمات اليهودية المنتشرة في فرنسا وأهدافها المتقاطعة مع اليمين الإسرائيلي، وكذلك في رأس المال اليهودي المنظم والداعم مادياً ومعنوياً لإسرائيل، حيث يقوم عدد كبير من الشباب اليهودي في فرنسا بأداء الخدمة العسكرية في إسرائيل فترة محددة، ثم يعودون إلى بلد المنشأ.
وعند استعراض تطور وجود اليهود في فرنسا، نجد أن عددهم لم يتجاوز عند قيام الثورة الفرنسية في عام 1789 أربعين ألف يهودي، من أصل 26 مليون فرنسي. وفي عام 1810 -أي بعد الثورة الفرنسية التي منحتهم حقوقاً متساوية مع بقية الفرنسيين- ارتفع عددهم ليصل إلى 46583 يهوديا.
وحسب إحصائية صدرت عن الجالية اليهودية، فإن 115 ألف يهودي قد جاؤوا إلى فرنسا بين عام 1880 و1939، إذ وصل 30 ألف يهودي بين 1881-1914، و85 ألفا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وبفعل الزيادة الطبيعية وهجرة بعض اليهود المغاربة -بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية- ارتفع عدد أفراد الجالية اليهودية في فرنسا ليصل إلى نحو 700 ألف يهودي بحلول عام 2015.
الهجرة إلى فلسطين
لم تكن هجرة يهود فرنسا إلى إسرائيل منظمة قبل إنشائها في عام 1948، ولكن خلال الحرب العالمية الثانية بدأت عائلات يهودية تهاجر إلى فلسطين هربا من الاحتلال الألماني لفرنسا. وحتى قيام إسرائيل لم يهاجر إلى فلسطين من يهود فرنسا سوى 3943 يهودياً، وأكثر سنوات الهجرة عددا كانت سنة 1949 حيث وصل إليها 1653 يهوديا فرنسيا، وفي السنوات العشر الأولى بعد قيام إسرائيل لم يهاجر إليها من فرنسا سوى 7768 يهوديا.
"من الملاحظ أن نسبة اليهود الفرنسيين المهاجرين إلى إسرائيل ضعيفة، وأغلبيتهم من اليهود الذين التحقوا بأقارب لهم هاجروا إليها من مناطق مختلفة من أوروبا. بل إن اليهود الذين هاجروا من مصر والجزائر وبقية دول المغرب العربي فضلوا الهجرة إلى فرنسا على الهجرة إلى إسرائيل"
وبشكل عام تشير دراسات إلى هجرة نحو 90 ألف يهودي من فرنسا إلى فلسطين المحتلة منذ إنشاء إسرائيل وحتى نهاية عقد التسعينيات من القرن المنصرم.
ومن الملاحظ أن نسبة اليهود الفرنسيين المهاجرين إلى إسرائيل ضعيفة، وأغلبيتهم من اليهود الذين التحقوا بأقارب لهم هاجروا إليها من مناطق مختلفة من أوروبا. بل إن اليهود الذين هاجروا من مصر والجزائر وبقية دول المغرب العربي فضلوا الهجرة إلى فرنسا على الهجرة إلى إسرائيل.
وتراجعت أرقام هجرة يهود فرنسا خلال العقود الماضية إلى فلسطين المحتلة، الأمر الذي دفع المؤسسة الإسرائيلية لوضع خطة في عام 2013 لمدة ثلاث سنوات بهدف مضاعفة أعداد المهاجرين اليهود من فرنسا، بحيث يتم جذب ستة آلاف مهاجر يهودي فرنسي في عام 2014، ومن ثم تقوم المؤسسات الإسرائيلية بتهيئة الظروف لاستقطاب 12 ألفا خلال 2015، وبعد ذلك 24 ألفا في عام 2016، هذا مع العلم بأنه تمّت هجرة ثلاثة آلاف يهودي فرنسي فقط إلى فلسطين المحتلة خلال عام 2013.
وعلى عكس المتوقع حسب الخطة المذكورة، أفاد تقرير مشترك -صدر أخيراً عن الوكالة اليهودية ووزارة الهجرة الإسرائيلية- بأن عدد المهاجرين اليهود القادمين إلى "إسرائيل" خلال عام 2014 سجل أعلى مستوياته منذ عشر سنوات.
إذ بلغ هذا العدد 26500 يهودي، في حين لم يكن يتعدى 20 ألف مهاجر في السنة الواحدة خلال السنوات الماضية، وثمة سبعة آلاف يهودي من أصول فرنسية، بينما كان عددهم في نهاية عام 2013 نحو 3000 مهاجر يهودي كما أشرنا، وتوقع التقرير قدوم عشرة آلاف مهاجر يهودي من فرنسا إلى إسرائيل خلال العام الحالي 2015.
وهناك شكوك حول قدرة المؤسسة الإسرائيلية على جذب أعداد كبيرة من يهود فرنسا -على غرار هجرة اليهود من دول الاتحاد السوفياتي السابق- في المستقبل المنظور، من خلال الوعود بعطاءات مالية كبيرة، فضلاً عن الإيحاء ليهود فرنسا بأنهم سيتعرضون لاعتداءات مستقبلية.
وعلى الرغم من مواقف عدد كبير من اليهود الفرنسيين المنحازين إلى جانب إسرائيل وسياستها التعسفية، فإنه لا توجد عوامل طاردة لليهود من فرنسا في ظل ديمقراطية فرنسية مشهود لها من جهة، وكذلك عوامل الجذب الاقتصادي والرفاه الاجتماعي هناك مقارنة مع إسرائيل؛ كما أن ثمة دولا أوروبية قد تكون أكثر جاذبية ليهود فرنسا من إسرائيل في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة العربية.