من المألوف أن يُسيِّر المحكومون المظاهرات الهادرة، دعما لمطلب أو موقف ما وإظهارا لكثرة أنصاره، سعيا لحمل الحكام على الاستجابة، أو حشرهم في الزاوية. أما أن يتظاهر الحكام ومن يدور في فلكهم فأمر غريب لا يعدو التظاهرَ بمعناه اللغوي. ضغطا على من؟ وطلبا ممن؟ أليس القرار بأيديهم؟!
في حد علمي شهدت بلادنا مظاهرتين من هذا القبيل من قبلُ، أخراهما حين تظاهر الوزراء وكبار المسؤولين بمناوأة الرشوة إشعارا لأمثالي أن طفح الكيل .وأضررتم بنا فاتقوا الله وكفوا عن الارتشاء! ولأنها قريبة العهد سأتجاوزها.
في سنة 1999 تحولت علاقات نظام موريتانيا بإسرائيل من رعاية "المصالح" إلى علاقات كاملة فافتتحت أول سفارة للعدو بموريتانيا، وأخرى لموريتانيا في فلسطين المحتلة، وفي السنة الموالية دنس شارون المسجد الأقصى المبارك حوله، فاشتعلت انتفاضة الأقصى وهب شارون يستعرض مواهبه التدميرية الدموية، فسقطت ورقة التوت عن أجساد المهطعين إلى حضن العدو، واستدعت مصر والأردن وغيرهما من الدول الأقوى ارتباطا بالصهاينة سفراءها انحناء للعاصفة، لكن السفير المسلم الوحيد الذي بقي هناك كان سفير موريتانيا! وزاد الأمر سوءا استقبال شارون لوزير خارجية موريتانيا "الزائر" على هامش حفل أقامه لتكريم طياريه على دك بيوت الأشقاء الفلسطينيين ومساجدهم فوق رؤوسهم.
ولأننا هنا فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين التهب الشارع فوجد نظام معاوية نفسه في عزلة خانقة ونقمة حانقة؛ لكنه لم يجد غير تسيير مظاهرة رسمية حاول فيها اللعب على أكثر من حبل؛ سماها "مظاهرة السلام" وأعرب المتحدثون عن الحنو على الفلسطينيين، ولأن إسرائيل لا يمكن أن تذكر إلا بشر تجنب "الخطباء" ذكر لإسرائيل، فبدا القوم كأنما يرون الخطب متبادل، أو يخالون الفلسطينيين ينتحرون من تلقاء أنفسهم أو يخربون بيوتهم بأيديهم!
سارت المظاهرة كما أريد لها، ولم يتخلف عنها منافق معلوم النفاق، ووفرت لها وسائل الدولة وقدراتها؛ باستثناء الضرب وشق الثياب والتنكيل الذي عرفته نظائرها المناهضة للعدوان والمعتدين في تلك الأيام. وإشهارا لأمرها وإشهادا عليه اختير أن تكون نقطة نهايتها العيادة المجمعة، وأن تطلق من هناك أسراب الحمام الأبيض على رؤوس الأشهاد، وحين حان ذلك لم يكن حمام ولا صقور؛ فقد تخلفت السيارة التي تحمل الحمام أو ضلت، أو اختار الحمام النأي بنفسه عن تلك اللعبة!











