ذكريات مصرية

محمد كريشان

ابتسمت وهي بالكاد تمسك نفسها عن إطلاق ضحكة مجلجلة:
ـ حاضر يا أفندم، سأسجل اسمك ضمن قائمة الراغبين في إجراء مقابلة مع سيادة الرئيس.
ـ شكراً، حبذا لو يكون الموعد في الأيام الثلاثة المقبلة، لأني مسافر الجمعة.
فعلاً كان الأمر مضحكاً، من هو هذا الصحافي الشاب النكرة ذو الـ 23 عاماً الذي يعمل في صحيفة أسبوعية لا يعرفها إلا أهل تونس، حتى يحدد بنفسه تقريباً الموعد الذي يريده مع الرئيس حسني مبارك لأن حضرته مسافر قريباً!!
كان ذلك في أبريل/نيسان 1982 في المكتب الصحافي الذي خصصته وزارة الإعلام لمئات الصحافيين الذين تدفقوا لتغطية الانسحاب الإسرائيلي من سيناء أشهراً قليلة بعد اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة الشهير. لم أكتف بذلك، بل رفعت السماعة وطلبت مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل لمقابلته، فقالت لي مديرته إنه خارج القاهرة، في بيته الريفي في «برقاش».
صحيح أن الرئيس مبارك لم يتفهم أجندتي المزدحمة (!!) ولا الأستاذ تطوّع للعودة إلى القاهرة للتشرف بلقائي (!!)، لكني نجحت مع ذلك في إجراء مقابلات صحافية مهمة مع كل من خالد محيي الدين زعيم حزب التجمع اليساري، وإبراهيم شكري زعيم حزب العمل المعارضين. أما «الخبطة الصحافية الكبرى» فكانت تلك المقابلة المطولة مع مطرب الأغاني الثورية الشيخ إمام عيسى، وصديقه الشاعر المتمرد على كل شيء أحمد فؤاد نجم. لم تكن خبطة فقط، لأن هذا الثنائي كان وقتها معشوق طلبة الجامعات الذين يتداولون أغانيه سراً ويحفظونها عن ظهر قلب، بل أيضاً لأن نجم كان قد أطلق سراحه من السجن مؤخراً وكان شاهداً على عملية إعدام مغتالي السادات في ساحة السجن التي كانت نافذته الضيقة في زنزانته تطل عليها. روى في تلك المقابلة كل التفاصيل مبدياً انبهاره بتماسك خالد الإسلامبولي ورفاقه أمام لحظة الموت. لجأت جريدتي «الرأي» إلى طبعة ثانية لأن العدد نفد من السوق في سويعات قليلة.

لا السلطات في وارد أن تمنحني تأشيرة دخول طبعاً، ولا أنا قادر أن أشعر بالارتياح والأمان الذي كنت أشعر به من قبل في المحروسة، بعد أن فقده أي صحافي مصري أو أجنبي لا يروق له ما يجري حالياً في البلاد

طبعاً، لم أضيّع تغطية الانسحاب من سيناء الذي جئت من أجله أصلاً. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها جنوداً إسرائيليين بـ«العين المجرّدة» كما أن أحد الصبية من بدو المنطقة، الذي كان يركض مزهواً بالحدث، سألني إن كنت أنا أيضاً يهودياً؛ لأن حديثي يشبههم كما قال، فعرفت أن من بين الجنود بالتأكيد من كان أصله من المغرب أو تونس ربما. سررت جداً لمّا رأيت يافطة كبيرة يحملها بعض الأهالي أمام الصحافيين وقد كتب عليها: «قبيلة آل كريشان تهنئ الرئيس مبارك بعودة سيناء»، ولأني صحافي «كحيان» ولم تكن لدي آلة تصوير طلبت من أحد الزملاء أن يلتقط هذه الصورة النادرة ويرسلها لي بالبريد. سجل المشهد طبعاً.. أما الصورة فما زلت في انتظارها إلى الآن!!
عدت إلى مصر ثانية وللصحيفة نفسها بعد أربع سنوات إثر ما عرف بأحداث الأمن المركزي أواخر شهر شباط/فبراير سنة 1986، التي كانت المرة الأولى التي تقوم فيها قوات نظامية، مهمتها حفظ الأمن، بالخروج على الأمن وتدمير ممتلكات خاصة وعامة في عدد من المحافظات. ومرة أخرى، لم أكتف بالحدث الذي جئت من أجله، بل ذهبت إلى طابا جنوب سيناء على رأس خليج العقبة لإعداد تقرير مطول عنها وقد كانت مقسمة بين جزء إسرائيلي وآخر مصري قبل أن تستعيدها مصر بالكامل بعد تحكيم دولي.
انقطعت سنوات عن مصر إلى أن تجدد عهدي معها من خلال اللقاءات التلفزيونية العديدة «مع هيكل». هنا تحول جدول الأعمال المصري لدي إلى شيء ثابت ومنظم، اليوم الموالي للوصول جلسة عمل مطولة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، أحياناً في شقته أو مكتبه وسط القاهرة، وأحياناً أخرى في عزبة برقاش. «ها أنا أزورها أخيراً وأتناول الغداء معكم»، قلت له ذات مرة في زهو من «ينتقم» من كاتبته قبل أعوام فيبتسم. نتفق على المحاور وتوزيع الوقت، المهمة الأصعب مع رجل يعشق الاستطرادات ولا يستلطف المقاطعات. اليوم الثالث مخصص للتسجيل الذي لا بد أن يكون صباحياً، فالأستاذ «كائن صباحي» كما كان يصف نفسه، ولذلك ظل «يعايرني» دائماً بذلك اللقاء اليتيم الذي أجبرته على أن يكون مسائياً على الهواء مباشرة الساعة العاشرة، موعده اليومي المقدس للخلود إلى النوم مستمعاً إلى نشرة أخبار إذاعة «بي بي سي».
طوال هذه السنوات وإلى غاية 2012، آخر مرة أزور فيها القاهرة لتغطية الانتخابات الرئاسية بين محمد مرسي وأحمد شفيق، لم أشعر يوماً بأني مراقب أو مهدد رغم أن لقاءات هيكل لم تكن محبذة دائماً ولا الرئيس مبارك مرتاح إلى مضمونها، خاصة بعد أن خصصنا في إحدى المرات حلقة كاملة للحديث عنه وعن مساعي توريث ابنه. أقصى ما فعلته السلطات المصرية بعد أن نفد صبرها من هذه اللقاءات هو تركي ذات مرة لساعة في المطار حتى يؤذن لي بالدخول، ثم حرماني لاحقاً من التأشيرة، فأجرينا اللقاء في لندن شهرين فقط قبل انطلاق ثورة 25 يناير.
بصراحة شديدة، الآن لا السلطات في وارد أن تمنحني تأشيرة دخول طبعاً، ولا أنا قادر أن أشعر بالارتياح والأمان الذي كنت أشعر به من قبل في المحروسة، بعد أن فقده أي صحافي مصري أو أجنبي لا يروق له ما يجري حالياً في البلاد. اشتقت فعلاً إلى مصر وأهلها ولكن… الله غالب!!

القد س العربي

أربعاء, 07/08/2019 - 12:46